الْحَدِيثِ وَعُلَمَاؤُهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ فَهُوَ مُحَصِّلٌ لِلْعِلْمِ مُفِيدٌ لِلْيَقِينِ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ بِهَا دُونَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالنُّحَاةِ وَالْأَطِبَّاءِ، كَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى صِدْقِ الْحَدِيثِ وَعَدَمِ صِدْقِهِ إِلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ وَعِلَلِهِ، وَهُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْعَالِمُونَ بِأَحْوَالِ نَبِيِّهِمْ، الضَّابِطُونَ لِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْمُعْتَنُونَ بِهَا أَشَدَّ مِنْ عِنَايَةِ الْمُقَلِّدِينَ بِأَقْوَالِهِمْ مَتْبُوعِيهِمْ.
فَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوَاتُرِ يَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ، فَيَتَوَاتَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِغَيْرِهِمْ فَضْلًا أَنْ يَتَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ، فَأَهْلُ الْحَدِيثِ لِشِدَّةِ عِنَايَتِهِمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ وَضَبْطِهِمْ لِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا لَا يَشُكُّونَ فِيهِ مِمَّا لَا شُعُورَ لِغَيْرِهِمْ بِهِ أَلْبَتَّةَ، فَخَبَرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوِهِمْ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْجَازِمَ الَّذِي يَلْتَحِقُ عِنْدَهُمْ بِقِسْمِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَا يُفِيدُ عِلْمًا، وَكَذَلِكَ يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَبِيَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ خُرُوجِ قَوْمٍ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُمْ جَازِمُونَ بِأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَاطِعُونَ بِصِحَّتِهَا عَنْهُ، وَغَيْرُهُمْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ الْأَخْبَارِ يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ.
وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ الَّذِي أَوْجَبَتِ الشَّرِيعَةُ تَصْدِيقَ مِثْلِهِ وَالْعَمَلَ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ خَبَرَ عَدْلٍ مَعْرُوفٍ بِالصِّدْقِ وَالضَّبْطِ وَالْحِفْظِ، فَهَذَا فِي إِفَادَتِهِ لِلْعِلْمِ قَوْلَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَيْضًا وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَازِ مِنْدَادَ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مِنْهُمُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ، وَاخْتَارَهُ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعَلَى هَذَا فَيَحْلِفُ عَلَى مَضْمُونِهِ وَيَشْهَدُ بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْلِفُ عَلَى مَضْمُونِهِ وَلَا يَشْهَدُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute