قَالَ: وَجَمِيعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو، وَالْحُجَّةُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، أَنَّ تَلَقِّيَ الْأُمَّةِ لِلْخَبَرِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ كَمَا لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى مُوجِبِ عُمُومٍ أَوْ مُطْلَقٍ أَوِ اسْمٍ حَقِيقَةً أَوْ عَلَى مُوجِبِ قِيَاسٍ فَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَوْ جُرِّدَ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ بِالنِّسْبَةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ يَجُوزُ الْخَطَأُ وَالْكَذِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْبِرِينَ بِمُفْرَدِهِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَالْأُمَّةُ مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهَا وَرَأْيِهَا وَرُؤْيَاهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» " فَجُعِلَ تَوَاطُؤُ الرُّؤْيَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهَا. وَالْآحَادُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ تَكُونُ ظُنُونًا بِشُرُوطِهَا، فَإِذَا قُوِّيَتْ صَارَتْ عُلُومًا، وَإِذَا ضَعُفَتْ صَارَتْ أَوْهَامًا وَخَيَالَاتٍ فَاسِدَةً.
قَالَ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُنْكِرُهُ إِذْ هُوَ خِلَافُ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الْجَزْمُ بِصِدْقِهِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا سُؤَالُ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ.
قُلْنَا: أَمَّا الْجَزْمُ بِصِدْقِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْتَفِ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، إِذِ الْقَرَائِنُ الْمُجَرَّدَةُ قَدْ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِهَا، فَكَيْفَ إِذَا احْتَفَتْ بِالْخَبَرِ، وَالْمُنَازِعُ بَنَى عَلَى هَذَا أَصْلَهُ الْوَاهِيَ أَنَّ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِ الْأَخْبَارِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ مَا دُونَ الْعَدَدِ لَا يُفِيدُ أَصْلًا، وَهَذَا غَلَطٌ خَالَفَهُ فِيهِ حُذَّاقُ أَتْبَاعِهِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ كَذِبًا وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ لَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا هُوَ كَذِبٌ وَخَطَأٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِذَا كَانَ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ صِدْقٌ مَقْبُولٌ فَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ أَوْلَى أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ إِلَّا فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ انْتَشَرَتِ انْتِشَارًا لَا تُضْبَطُ أَقْوَالُ جَمِيعِهَا.
قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السِّلَفِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ مَا تَلَقَّاهُ أَهْلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute