للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ الطَّلَائِعَ وَالْجَوَاسِيسَ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ وَيَقْبَلُ قَوْلَهُ إِذَا رَجَعَ، وَرُبَّمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ بِقَوْلِهِ وَحْدَهُ، وَمَنْ تَدَبَّرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَتَهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا يَرُدُّ هَذَا إِلَّا مُكَابِرٌ وَمُعَانِدٌ.

وَلَوْ أَنَّكَ وَضَعْتَ فِي قَلْبِكَ أَنَّكَ سَمِعْتَ الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ وُجُوهِ الصَّحَابَةِ يَرْوِي لَكَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ مِنَ الِاعْتِقَادِ مِنْ جَوَازِ الرُّؤْيَةِ عَلَى اللَّهِ وَإِثْبَاتِ الْقَدَرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَوَجَدْتَ قَلْبَكَ مُطْمَئِنًّا إِلَى قَوْلِهِ لَا يُدَاخِلُكَ شَكٌّ فِي صِدْقِهِ وَثُبُوتِ قَوْلِهِ، وَفِي زَمَانِنَا تَرَى الرَّجُلَ يَسْمَعُ مِنْ أُسْتَاذِهِ الَّذِي يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ وَيَعْتَقِدُ فِيهِ التَّقْدُمَةَ وَالصِّدْقَ إِنَّهُ سَمِعَ أُسْتَاذَهُ يُخْبِرُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ عَقِيدَتِهِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِهَا، فَيَحْصُلُ لِلسَّامِعِ عِلْمٌ بِمَذْهَبِ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أُسْتَاذُهُ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِجُهُ شُبْهَةٌ وَلَا يَعْتَرِيهِ شَكٌّ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْعِلْمُ تُوجَدُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَمَنْ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ عَلِمَ بِذَلِكَ.

قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَالظَّنَّ فَلِلتَّجَوُّزِ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُعْظَمُ أَوْقَاتِهِ وَأَيَّامِهِ مُشْتَغِلًا بِالْحَدِيثِ وَالْبَحْثِ عَنْ سِيرَةِ النَّقَلَةِ وَالرُّوَاةِ، لِيَقِفَ عَلَى رُسُوخِهِمْ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَكَبِيرِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ وَصِدْقِ وَرَعِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَشِدَّةِ حَذَرِهِمْ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالزَّلَلِ، وَمَا بَذَلُوهُ مِنْ شِدَّةِ الْعِنَايَةِ فِي تَمْهِيدِ هَذَا الْأَمْرِ، وَالْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا، وَكَانُوا بِحَيْثُ لَوْ قُتِلُوا لَمْ يُسَامِحُوا أَحَدًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَقَوَّلُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَعَلُوا هُمْ بِأَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ، وَقَدْ نَقَلُوا هَذَا الدِّينَ إِلَيْنَا كَمَا نُقِلَ إِلَيْهِمْ وَأَدَّوْا كَمَا أُدِّيَ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا فِي صِدْقِ الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِهَذَا الشَّأْنِ مَا يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ وَيَقْصُرُ دُونَهُ الذِّكْرُ، وَإِذَا وَقَفَ الْمَرْءُ عَلَى هَذَا مِنْ شَأْنِهِمْ وَعَرَفَ حَالَهُمْ وَخَبَرَ صِدْقَهُمْ وَوَرَعَهُمْ وَأَمَانَتَهُمْ، ظَهَرَ لَهُ الْعِلْمُ فِيمَا نَقَلُوهُ وَرَوَوْهُ.

قَالَ: وَالَّذِي يَزِيدُ مَا قُلْنَا إِيضَاحًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ قَالَ: " «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» " فَلَا بُدَّ مِنْ تَعَرُّفِ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَلَيْسَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا النَّقْلَ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا

<<  <   >  >>