للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَأَيْضًا فَالْأَحَادِيثُ وَالْآيَاتُ النَّاهِيَةُ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِذَمِّهِ كُلُّهَا شَهَادَةٌ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَمَا عَدَاهُ فَخَطَأٌ، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَوَابًا لَمْ يَنْهَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَلَا ذَمَّهُ.

وَأَيْضًا فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِهِ فَلَيْسَ بِالصَّوَابِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا اخْتَلَفَ مَعَانِيهِ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِذِ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ.

وَأَيْضًا إِذَا اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدَانِ فَرَأَى أَحَدُهُمَا إِبَاحَةَ دَمِ إِنْسَانٍ، وَالْآخَرُ تَحْرِيمَهُ وَرَأَى أَحَدُهُمَا تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرًا مُخَلَّدًا فِي النَّارِ، وَالْآخَرُ رَآهُ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ حَقًّا وَصَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَوِ الْجَمِيعُ خَطَأً عِنْدَهُ، أَوِ الصَّوَابُ وَالْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَالْآخَرُ خَطَأٌ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي ظَاهِرُ الْإِحَالَةِ وَهُمَا بِالْهَوَسِ أَشْبَهُ مِنْهُمَا بِالصَّوَابِ فَكَيْفَ يَكُونُ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ مُؤْمِنًا كَافِرًا مُخَلَّدًا فِي الْجَنَّةِ وَفِي النَّارِ، وَكَوْنُ الْمُصِيبِ وَاحِدًا هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، كَمَا حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ لَهُ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، هَذَا قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ.

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَسْأَلَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ كُلُّهَا صَرِيحَةٌ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُ سِوَاهُ.

وَلَيْسَ الْغَرَضُ اسْتِقْصَاءَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ الْخَطَأَ يَقَعُ فِيمَا سَمَّوْهُ فُرُوعًا كَمَا يَقَعُ فِيمَا جَعَلُوهُ أُصُولًا فَنُطَالِبُهُمْ بِفَرْقٍ صَحِيحٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنَ الدِّينِ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجِدُونَ إِلَى الْفَرْقِ سَبِيلًا إِلَّا بِدَعَاوٍ بَاطِلَةٍ ثُمَّ نُطَالِبُهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَمَا ضَابِطُ ذَلِكَ، ثُمَّ نُطَالِبُهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَأْثَمُ جَاحِدُهُ أَهْوَ إِثْمُ كُفْرٍ أَوْ فَسُوقٍ وَمَا لَا يَأْثَمُ جَاحِدُهُ، وَنُطَالِبُهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْقَطْعُ الْيَقِينِيُّ، وَمَا يُكْتَفَى فِيهِ الظَّنُّ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى تَقْرِيرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ.

قَالَ الْجُوَيْنِيُّ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فَقَالُوا: الْأَصْلُ مَا فِيهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَالْفَرْعُ بِخِلَافِهِ.

<<  <   >  >>