للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قُلْتُ: وَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ: لَا تَثْبُتُ الْأُصُولُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ ثُمَّ قِيلَ: وَالْأَصْلُ مَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ كَانَ ذَلِكَ دَوْرًا ظَاهِرًا.

وَأَيْضًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ بَلْ أَكْثَرُهَا عَلَيْهَا أَدِلَّةٌ قَطْعِيَّةٌ كَوُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَنَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ بِالِاحْتِلَامِ، وَهَكَذَا أَكْثَرُ الشَّرِيعَةِ أَدِلَّتُهَا قَطْعِيَّةٌ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ أُصُولٌ أَدِلَّتُهَا ظَنِّيَّةٌ.

وَهَكَذَا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، كَالْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاسِ، وَتَقَدُّمِهِمَا عَلَى الْعُمُومِ وَالْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ وَمَسْأَلَةِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَالِاحْتِجَاجِ بِالْمَرَاسِيلِ وَشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَأَضْعَافِ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ أُصُولُ الدِّينِ كَمَسْأَلَةِ الْحَالِ وَبَقَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَقِدَمِهِ هَلْ هِيَ بَقَاءٌ وَقِدَمٌ زَائِدَيْنِ عَلَى الذَّاتِ، وَالْوُجُودِ الْوَاجِبِ هَلْ مِنْ نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ أَوْ زَائِدٌ عَلَيْهَا، وَإِثْبَاتِ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ تَكُونُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ وَنَحْوُهَا فَرْعِيَّةً وَتِلْكَ الْمَسَائِلُ الْعَمَلِيَّةُ أُصُولِيَّةً.

قَالَ: وَقِيلَ: الْأَصْلُ مَا لَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ فِيهِ إِلَّا بِأَمْرٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ وَالْفَرْعُ بِخِلَافِهِ.

قُلْتُ: وَهَذَا الْفَرْقُ أَفْسَدُ مِنَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْفُرُوعِ لَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ فِيهَا إِلَّا بِالْمَشْرُوعِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ، فَلَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالسُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ وَإِبَاحَةِ الْفَوَاحِشِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ وَالظُّلْمِ فِي الْأَمْوَالِ، وَانْتِهَاكِ الْأَعْرَاضِ وَشَهَادَاتِ الزُّورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ نُفَاةُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ يُجَوِّزُونَ التَّعَبُّدَ بِذَلِكَ، وَيَقُولُونَ يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَ الشَّرَائِعُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، فَقَوْلُهُمْ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَسَادَهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ.

قَالَ: وَقِيلَ: الْأَصْلُ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ وُرُودِ الشَّرْعِ وَالْفَرْعِ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا الْفَرْقُ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا أُصُولًا لَمْ تُعْلَمْ إِلَّا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ، كَاقْتِضَاءِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ، وَكَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً وَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، بَلْ أَكْثَرُ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ لَمْ تُعْلَمْ إِلَّا بِالسَّمْعِ، فَجَوَازُ رُؤْيَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ عُلُوِّهِ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ بِالذَّاتِ فَإِنَّهَا فِطْرِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ، وَأَكْثَرُ مَسَائِلِ الْمَعَادِ وَتَفْصِيلِهِ لَا يُعْلَمُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَمَسَائِلُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ وَسُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ.

<<  <   >  >>