وَابْنِهِ أَبَا هَاشِمٍ وَأَصْحَابَهُ، وَأَصْحَابُ أَبِي هَاشِمٍ يُكَفِّرُونَ أَبَا عَلِيٍّ وَأَصْحَابَهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ رُءُوسِهِمْ وَأَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ مِنْهُمْ إِذَا تَدَبَّرْتَ أَقْوَالَهُمْ رَأَيْتَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَذَلِكَ الْخَوَارِجُ وَالرَّافِضَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَسَائِرُ الْمُبْتَدَعَةِ كَذَلِكَ، وَهَلْ عَلَى الْبَاطِلِ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: ١٥٩] فَبَرَّأَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ أَهْلِ هَذَا التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ.
(قَالَ) : وَكَانَ السَّبَبُ فِي اتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا الدِّينَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَرِيقِ النَّقْلِ، فَأَوْرَثَهُمُ الِاتِّفَاقَ وَالِائْتِلَافَ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ أَخَذُوا الدِّينَ مِنْ عُقُولِهِمْ فَأَوْرَثَهُمُ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ، فَإِنَّ النَّقْلَ وَالرِّوَايَةَ مِنَ الثِّقَاتِ وَالْمُتْقِنِينَ قَلَّمَا تَخْتَلِفُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي لَفْظِهِ أَوْ كَلِمِهِ فَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ لَا يَضُرُّ الدِّينَ وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولَاتُ وَالْخَوَاطِرُ، وَالْأَرَاءُ فَقَلَّمَا تَتَّفِقُ، بَلْ عَقْلُ كُلِّ وَاحِدٍ وَرَأْيُهُ وَخَاطِرُهُ يُرِي صَاحِبَهُ غَيْرَ مَا يُرِي الْآخَرَ.
قَالَ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مُفَارَقَةُ الِاخْتِلَافِ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ اخْتِلَافَ الْعَقَائِدِ فِي الْأُصُولِ، فَإِنَّا وَجَدْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ اخْتَلَفُوا بَعْدَهُ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ، فَلَمْ يَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَكُونُوا شِيَعًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوا الدِّينَ، وَنَظَرُوا فِيمَا أُذِنَ لَهُمْ فَاخْتَلَفَ أَقْوَالُهُمْ وَآرَاؤُهُمْ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ كَمَسْأَلَةِ الْجَدِّ وَالْمُشْرِكَةِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَصَارُوا بِاخْتِلَافٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَحْمُودِينَ، وَكَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاخْتِلَافِ رَحْمَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ أَيَّدَهُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالْيَقِينِ، ثُمَّ وَسَّعَ عَلَى الْعُلَمَاءِ النَّظَرَ فِيمَا لَمْ يَجِدُوا حُكْمَهُ فِي التَّنْزِيلِ وَالسُّنَّةِ، وَكَانُوا مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَهْلَ مَوَدَّةٍ وَنُصْحٍ، وَبَقِيَتْ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُمْ نِظَامُ الْأُلْفَةِ، فَلَمَّا حَدَثَتْ هَذِهِ الْأَهْوَاءُ الْمُرْدِيَةُ الدَّاعِيَةُ أَصْحَابَهَا إِلَى النَّارِ وَصَارُوا أَحْزَابًا انْقَطَعَتِ الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ وَسَقَطَتِ الْأُلْفَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّنَائِيَ، وَالْفُرْقَةَ إِنَّمَا حَدَثَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا الشَّيْطَانُ أَلْقَاهَا عَلَى أَفْوَاهِ أَوْلِيَائِهِ لِيَخْتَلِفُوا وَيَرْمِيَ بَعْضُهَا بَعْضًا بِالْكُفْرِ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَخَاضَ فِيهَا النَّاسُ وَاخْتَلَفُوا، وَلَمْ يُورِثْ هَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةً وَلَا نَقْصًا وَلَا تَفَرُّقًا، بَلْ بَقِيَتْ بَيْنَهُمُ الْأُلْفَةُ وَالنَّصِيحَةُ وَالْمَوَدَّةُ، وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِسْلَامِ يَجُوزُ النَّظَرُ فِيهَا، وَالْآخَرُ يَقُولُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ مَا لَا يُوجِبُ تَبْدِيعًا وَلَا تَكْفِيرًا كَمَا ظَهَرَ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَعَ بَقَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute