للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شَرِيكَةُ الْمَالِكِ الْحَقِّ، فَنَفَى شِرْكَهَا لَهُ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُ: قَدْ يَكُونُ ظَهِيرًا أَوْ وَزِيرًا أَوْ مُعَاوِنًا فَقَالَ: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: ٢٢] وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّفَاعَةُ فَنَفَاهَا عَنْ آلِهَتِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لِلشَّافِعِ لَمْ يَتَقَدَّمْ بِالشَّفَاعَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، فَإِنَّ الْمَشْفُوعَ عِنْدَهُ يَحْتَاجُ إِلَى الشَّافِعِ وَمُعَاوَنَتِهِ لَهُ، فَيَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهَا، وَأَمَّا مَنْ كُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِذَاتِهِ، فَهُوَ الْغِنِيُّ بِذَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَكَيْفَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ مُقَرِّرًا بُرْهَانَ التَّوْحِيدِ أَحْسَنَ التَّقْرِيرِ وَأَبْلَغَهُ وَأَوْجَزَهُ {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: ٤٢] فَإِنَّ الْآلِهَةَ الَّتِي كَانُوا يُثْبِتُونَهَا مَعَهُ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهَا عَبِيدُهُ وَمَمَالِيكُهُ وَمُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانُوا آلِهَةً كَمَا يَقُولُونَ لَعَبَدُوهُ وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ ; فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهُمْ دُونَهُ، وَقَدْ أَفْصَحَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا بِعَيْنِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: ٥٧] أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِي هُمْ عَبِيدِي كَمَا أَنْتُمْ عَبِيدِي، يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي ; فَلِمَاذَا تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِي؟

وَقَالَ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: ٩١] .

فَتَأَمَّلْ هَذَا الْبُرْهَانَ الْبَاهِرَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ الْبَيِّنِ فَإِنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا فَاعِلًا يُوصِلُ إِلَى عَابِدِهِ النَّفْعَ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الضُّرَّ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ سُبْحَانَهُ إِلَهٌ لَكَانَ لَهُ خَلْقٌ وَفِعْلٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَرْضَى شَرِكَةَ الْإِلَهِ الْآخَرِ مَعَهُ، بَلْ إِنْ قَدَرَ عَلَى قَهْرِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ دُونَهُ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ انْفَرَدَ بِخَلْقِهِ وَذَهَبَ بِهِ، كَمَا يَنْفَرِدُ مُلُوكُ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِمَمَالِيكِهِمْ إِذَا لَمْ يَقْدِرِ الْمُنْفَرِدُ عَلَى قَهْرِ الْآخَرِ وَالْعُلُوِّ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا أَنْ يَذْهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِخَلْقِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْلُوَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ تَحْتَ قَهْرِ إِلَهٍ وَاحِدٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ وَلَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ حُكْمِهِمْ وَلَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ حُكْمِهِ فَيَكُونُ وَحْدَهُ هُوَ الْإِلَهُ وَهُمُ الْعَبِيدُ الْمَرْبُوبُونَ الْمَقْهُورُونَ، وَانْتِظَامُ أَمْرِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَارْتِبَاطُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَجَرَيَانُهُ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَفْسُدُ مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَهُ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ

<<  <   >  >>