للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْعَقْلُ أَصْلُ النَّقْلِ، إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ أَصْلٌ فِي ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَصْلٌ فِي عِلْمِنَا بِصِحَّتِهِ، فَالْأَوَّلُ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى عِلْمِنَا بِهِ، فَعَدَمُ عِلْمِنَا بِالْحَقَائِقِ لَا يُنَافِي ثُبُوتَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ هُوَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ، سَوَاءٌ عَلِمْنَاهُ بِعُقُولِنَا أَمْ لَمْ نَعْلَمْهُ، وَسَوَاءٌ صَدَّقَهُ النَّاسُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقُوهُ، كَمَا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَإِنْ كَذَّبَهُ مَنْ كَذَّبَهُ، كَمَا أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ تَعَالَى وَثُبُوتَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ حَقٌّ، سَوَاءٌ عَلِمْنَاهُ بِعُقُولِنَا أَوْ لَمْ نَعْلَمْهُ، فَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِنَا، فَضْلًا عَنْ عُلُومِنَا وَعُقُولِنَا، فَالشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُسْتَغْنٍ فِي عِلْمِنَا وَعَقْلِنَا، وَلَكِنْ نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ أَنْ نَعْلَمَهُ، فَإِذَا عَلِمَ الْعَقْلُ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ كَمَالٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا فَقَدَهُ كَانَ نَاقِصًا جَاهِلًا.

وَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعَقْلَ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَتِنَا بِالسَّمْعِ وَدَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَعْنِي بِالْعَقْلِ الْقُوَّةَ الْغَرِيزِيَّةَ الَّتِي فِينَا، أَمِ الْعُلُومَ الْمُسْتَفَادَةَ بِتِلْكَ الْغَرِيزَةِ؟ فَالْأَوَّلُ لَمْ يُرِدْهُ، وَيَمْتَنِعُ إِرَادَتُهُ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْغَرِيزَةَ لَيْسَتْ عِلْمًا يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ لِلنَّقْلِ، وَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا فِي كُلِّ عِلْمٍ عَقْلِيٍّ أَوْ سَمْعِيٍّ، وَمَا كَانَ شَرْطًا فِي الشَّيْءِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُنَافِيًا لَهُ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ الْحَاصِلَةَ بِالْعَقْلِ، قِيلَ لَكَ: لَيْسَ كُلُّ مَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ يَكُونُ أَصْلًا لِلسَّمْعِ وَدَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَإِنَّ الْمَعَارِفَ الْعَقْلِيَّةَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَالْعِلْمُ بِصِحَّةِ السَّمْعِ غَايَتُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا بِهِ يُعْلَمُ صِدْقُ الرَّسُولِ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَيْسَ كُلُّ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُ الرَّسُولِ، بَلْ ذَلِكَ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعْقُولَاتِ لَيْسَتْ أَصْلًا لِلنَّقْلِ لَا بِمَعْنَى تَوَقُّفِ الْعِلْمِ بِالسَّمْعِ عَلَيْهَا ; لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِثْبَاتِ كَالْأَشْعَرِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعِلْمَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْحَادِثَةِ ضَرُورِيٌّ، فَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِصِدْقِ الرَّسُولِ مِنَ الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ سَهْلٌ يَسِيرٌ، مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْمُعَارِضُ لِلسَّمْعِ مِنَ الْمَعْقُولَاتِ مَا لَا يَتَوَقَّفُ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ السَّمْعِ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنِ الْقَدْحُ فِيهِ قَدْحًا فِي أَصْلِ السَّمْعِ، وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، وَلَيْسَ الْقَدْحُ فِي بَعْضِ الْعَقْلِيَّاتِ قَدْحًا فِي جَمِيعِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ الْقَدْحُ فِي بَعْضِ السَّمْعِيَّاتِ قَدْحًا فِي جَمِيعِهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا مَعْرِفَتُنَا بِالسَّمْعِ صِحَّةُ غَيْرِهَا مِنَ الْمَعْقُولَاتِ، وَلَا مِنْ فَسَادِ هَذِهِ فَسَّادُ تِلْكَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى مَا يُقَالُ: إِنَّهُ مَعْقُولٌ فِي الْجُمْلَةِ الْقَدْحُ فِي أَصْلِهِ.

<<  <   >  >>