للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِصِدْقِ الرَّسُولِ وَثُبُوتِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا امْتَنَعَ التَّعَارُضُ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ الْمَعْقُولَ إِنْ كَانَ مَعْلُومًا لَمْ يَتَعَارَضْ مَعْلُومٌ وَمَجْهُولٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَمْ يَتَعَارَضْ مَجْهُولَانِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَنَعَ أَلَّا يَعْلَمَ بِثُبُوتِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِصِدْقِهِ لَزِمَ ضَرُورَةً أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِثُبُوتِ مُخْبَرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَقَعَ عِنْدَهُ دَلِيلٌ يُعَارِضُ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ وَاجِبَ التَّقْدِيمِ، إِذْ مَضْمُونُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَا تَعْتَقِدْ ثُبُوتَ مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ ; لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ يُنَافِي مَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ الْمُخْبِرَ صَادِقٌ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ، لَا تُصَدِّقْهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ ; لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَصْدِيقِهِ، فَيَقُولُ: وَعَدَمُ تَصْدِيقِي لَهُ فِيهِ هُوَ عَيْنُ اللَّازِمِ الْمَحْذُورِ، فَإِذَا قِيلَ لِي: لَا تُصَدِّقْهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ عَدَمُ تَصْدِيقِهِ كَانَ كَمَا لَوْ قِيلَ: كَذِّبْهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَكْذِيبُهُ، فَهَكَذَا حَالُ مَنْ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يُصَدِّقُوا الرَّسُولَ فِيمَا عَلِمَهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ رَسُولٌ لِئَلَّا يُفْضِيَ تَصْدِيقُهُمْ إِلَى عَدَمِ تَصْدِيقِهِ، يُوَضِّحُهُ:

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مِنْ قَبُولِ هَذَا الْخَبَرِ وَتَصْدِيقِهِ فِيهِ هُوَ عَيْنُ الْمَحْذُورِ، فَيَكُونُ وَاقِعًا فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ سَوَاءٌ أَطَاعَ أَوْ عَصَى، وَيَكُونُ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِيَّةِ سَوَاءٌ أَطَاعَ أَوْ عَصَى، وَيَكُونُ وُقُوعُهُ فِي الْمَخُوفِ الْمَحْذُورِ عَلَى تَقْدِيرِ الطَّاعَةِ أَعْجَلَ وَأَسْبَقَ مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ التَّكْذِيبُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ النَّهْيُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مَحْذُورًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْذُورًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ مَحْذُورًا فَلَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُ: لَا تُصَدِّقْهُ فِي هَذَا كَانَ آمِرًا لَهُ بِمَا يُنَاقِضُ مَا عَلِمَ بِهِ صِدْقَهُ، فَكَانَ آمِرًا بِمَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَثِقَ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى جَوَّزَ كَذِبَهُ أَوْ غَلَطَهُ فِي خَبَرٍ جَوَّزَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، وَلِهَذَا أَفْضَى الْأَمْرُ بِمَنْ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَفْعَالِهِ، بَلْ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يَجِبُ رَدُّهُ وَتَكْذِيبُهُ، وَنَوْعٌ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَنَوْعٌ يُقَرُّ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَصْلٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، بَلْ يَقُولُ: مَا أَثْبَتَهُ عَقْلُكَ فَأَثْبِتْهُ وَمَا نَفَاهُ عَقْلُكَ فَانْفِهِ، وَهَذَا يَقُولُ: مَا أَثْبَتَهُ كَشْفُكَ فَأَثْبِتْهُ وَمَا لَا فَلَا، وَوُجُودُ الرَّسُولِ عِنْدَهُمْ كَعَدَمِهِ فِي الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، بَلْ عَلَى قَوْلِهِمْ وَأُصُولِهِمْ وُجُودُهُ

<<  <   >  >>