الحقيقة هي -استمرارية الخلق- أي أن هذا الكون ما زال يخلق:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}[القصص: ٦٨] . واستمرارية الخلق هذه ترفد الحياة دائما بالجديد من الأفكار والأشخاص والأشياء. والكائنات الجديدة تفرز -علاقات جديدة. والعلاقات الجديدة تتطلب -قيما جديدة- تترجم إلى نظم ومؤسسات، وسياسات جديدة:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن: ٢٩] . والذين لا يعون استمرارية الخلق وما ينتج عنها من تجدد في الشئون، والعلاقات والقيم والتطبيقات لا يفقهون مضمون الهجرة المطلوبة، ويقلعون في الاتجاه المعاكس للتاريخ فيرتدون إلى الآبائية ويسقطون في التخلف، ويلفهم اللبس والحيرة والاضطراب، وينتهون إلى البوار:{بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}[ق: ١٥] .
والأهمية الثالثة، هي أن الهجرة بمعناها الشامل حركة تجديد مستمر، وعامل من عوامل قوة الأمة الفكرية والمادية؛ لأنها تجتذب حول "المثل الأعلى" الذي تطرحه الرسالة الإسلامية العناصر الصالحة المتفوقة من كل جيل من البشرية كلها لتلتقي حول أسمى الغايات، وتتعاون لإنجاز أرقى الحضارات. ومن المحزن أن لا يبرز "فقه وفقهاء للجنسية والمواطنة" القائمة على مفهوم الهجرة هذا في الوقت الذي نشاهد أثر قوانين الهجرة -التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية- في تجميع العناصر ذات الكفاءات العالية من أقطار الأرض كلها، ثم إطلاق قدراتها وإرادتها لما فيه قوة الولايات المتحدة، واحتلالها مكان الصدارة في العالم كله.
ومن الموضوعية أن نقول: أنه في الوقت الذي يعجز العقل الإسلامي المعاصر عن شهود مراد الوحي في -العلاقة بين استمرارية الخلق، والهجرة وتجدد عافية الأمم- فإن الفكر الغربي المعاصر قد شهد هذه الحقيقة ونظم حياته طبقا لها، وإن كانت العلاقات السلبية التي قامت بين المفكرين، وبين الكنيسة جعلتهم -على المستوى العقائدي- يتنكرون لفكرة الخلق ويستدلونها بفكرة "النشوء والارتقاء والتطور" أي الاعتقاد بأن الكون ينشأ