للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأمّر، من صحابة وأتباع، ورؤوس وأشياع، وعلماء وزهّاد، وقرّاء وعبّاد، كم من خليفة عهد لولده بالخلافة واستخلفه، فجاءه الموت فأخذه من بين يديه واختطفه. وكم من ملك دانت له الرقاب وذلّت، وفرّت منه الأسود وولّت، وأخذ القلاع والحصون، وحاز من الأموال كلّ كنز مصون، جاء الموت فاستلب ولده، والتهب كبده، ولم يقدر أن يفديه بما حوته يده؟

وكم طرق هذا الطارق من أمير ووزير، ومستشار ومشير، وكبير وصغير، وغني وفقير، وطبيب ولبيب، وعدو وحبيب، كلّ قد دارت عليه هذه الكأس، ولم تفرق بين عار وكاس، فلذلك تمنى أن لا يولد له من تمنّى، وتغنى به من تغنّى، لما تعنّى [١] :/ [الوافر]

أرى ولد الفتى ضررا عليه ... لقد سعد الذي أضحى عقيما

فامّا أن يربيه عدوّا ... وإمّا أن يخلّفه يتيما

وإمّا أن يوافيه حمام ... فيبقى حزنه أبدا مقيما

وبعضهم استجاد الموت وأجاد إذ قال في الإنشاد [٢] : [الطويل]

لئن أوحشت ممّن أحبّ منازل ... لقد آنست ممن أحبّ المقابر

وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذر

وكيف لا يستحسن في هذا الزمان موت الأولاد، وهو الزمان الذي ظهر فيه الفساد، وكثر فيه العناد، ولا يظفر فيه بواحد من الألف ساد، وهو الذي أخبر عنه سيد بني كنانة بقوله: (لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه) [٣] .

ولقد أبدع وشنّف [٤] ، قول العباس بن الأحنف [٥] : [المنسرح]

يبكي رجال على الحياة وقد ... أفنى دموعي شوقي إلى الأجل

أموت من قبل أن يغيرني الد ... هر فاني منه على وجل

وعزّى رجل رجلا بابن له يسليه عنه، فقال: «الله خير له منك، وثوابه خير لك منه» .

وعزّى آخر بابنة له، فقيل له: «احمد الله على أمرك، حيث أعزها بوقوفك على


[١] البيتان الأول والثاني لأبي العلاء المعري في اللزوميات ٢/٣٠٦ من قطعة.
[٢] البيتان لأبي نواس في رثاء الأمين، في ديوانه ص ٥٨١، ورواية البيت الأول فيه:
لئن عمرت دور بمن لا أودّه ... فقد عمرت ممن أحبّ المقابر
[٣] صحيح البخاري ٩/٧٣، مسند أحمد بن حنبل ٢/٢٣٦، كنز العمال ٣٨٤٨٧ صحيح الجامع الصغير ٦/١٧٧.
[٤] شنف: أي أمال الأسماع، والشنف: قرط يلبس في أعلى الأذن (اللسان: شنف) .
[٥] البيتان في ديوان العباس بن الأحنف ص ٢٢١.

<<  <   >  >>