للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قبرها، ولا أذلها بوقوفها على قبرك» ./

ومما يهون أمر الولد في وفاته، حصول الراحة له من حوادث المرض وآفاته، وما يقاسيه من العنا، وما يكابده من شدة الضنى، حتى يقول الولد الرحيم، وليس له غير دمعة من حميم [١] : [البسيط]

يا ليت علّته بي غير أنّ له ... أجر العليل وأني غير مأجور

وإذا تذكر الإنسان ما تلقاه به مولاه، وأكرمه به سيده وحباه، هان عليه فراقه وعذب عنده مذاقه، وعلم أنّ المولى خير لعبده من أبويه، وأنّه صار إلى ما هو خير له وأحبّ إليه، من ذلك: أنّ ملك الموت يقرئه من ربه السلام، ويتلقّى روحه حين تخرج الملائكة الكرام، وتلفّ في حريرة بيضاء من حرير الجنان، ويضمّ إليها المسك وضبائر الريحان، وتتلقاه أرواح المؤمنين، ويصعد به إلى السماء مع الآمنين، ولا يزال يعرج به من سماء إلى سما، وكلّ من مرّ عليه من الملائكة مسلّما، إلى أن يأتوا به إلى سدرة المنتهى، وإليها كلّ مؤمن وقف وانتهى، فيقف بين يدي مولاه، ويقولون هذا عبدك فلان توفيناه، فيؤمر بالسجود، فتسجد النسمة [٢] ، فيا له من موقف ما أشرفه وأعظمه.

ثم يأتيه بأمانه من العذاب صكّ مختوم، وكتاب مرقوم، ويوسع له في قبره مد البصر، ويجعل له فيه نور مثل نور الشمس والقمر، وينبذ فيه الريحان،/ ويبسط فيه من الحرير ألوان، وتفتح له الملائكة بابا إلى الجنة عيّا، وينظر إلى مقعده فيها بكرة وعشيّا، ويكفيك ما ثبت في السّنّة: (أن القبر روضة من رياض الجنّة) [٣] ، وتطلق الروح مرسلة من سجن الدنيا الذي كانت فيه، فانّ الدنيا سجن المؤمن، وخلاصه من ذلك السجن توفيه، ويعطى في قبره ما شاء من أنواع الإيمان، إن شاء أن يصلي صلّى، وإن شاء قرأ القرآن، ويعطى مصحفا من ذهب يقرأ فيه.

وناهيك بمن يحبّه الله من حملة كتابه ويصطفيه، ووردت أحاديث عديدة، إسانيدها مجيدة: (إنّ من حفظ شيئا من القرآن ومات قبل تتميمه، بعث الله إليه ملائكة في قبره يحفظونه ما بقي، ويقومون بتعليمه) [٤] ، وكم للمؤمن في قبره من إكرام وامتنان، منها أن يكسى عند وضعه فيه حلّة من الجنان، ويؤذن له في الزيارة والمحادثة لمن في قبورهم من الإخوان، وإذا زاره أحد من معارفه في الدنيا حصل له استئناس، وإذا سلّم


[١] البيت لمسلم بن الوليد في ديوانه ص ٣٢٣، ونسب البيت لأكثر من شاعر في المصادر الأدبية وكتب التراجم.
[٢] النسمة: نفس الروح. (اللسان: نسم) .
[٣] شرح صحيح الترمذي للأحوذي ٩/٢٨٤.
[٤] لم أجده في كتب الحديث المعتمدة.

<<  <   >  >>