للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلما سمع القاضي جودة منطقه، وحسن نسقه، وقدرته على الكلام، وثباته في الخصام، وقوته في النظر، ومعرفته بالأثر، وروايته للخبر، علم أنه عود بازل [١] ، وقضاء نازل، وعالم لا يجارى، وفقيه لا يمارى، ومتكلم لا يصطلى بناره، ولا يبصر في غباره، وأنه إنما حمله على ذلك ضرورة القلة والإعدام، والأنفة من الحاجة إلى السفلة واللئام، نزع الخاتم من إصبعه، وقال: هاك يا فقيه، يا متكلم، يا محدث، يا شاعر، يا لص، فأخذه منه، وحلّ عقاله، وأوسع مجاله، ونفس خناقه وأطلق/ وثاقه، ومضى عنه وهو يقول: [البسيط]

اعذر أخاك خلاك الذمّ من رجل ... صلب المجسّ له ناب وأظفور

لولا تفقدني سلمى لما بكرت ... بي نحو ما كنت تخشاه المقادير [٢]

قالت وقد رابها عدمي ثكلتك من ... راض ببرض معاش فيه تكدير [٣]

مهلا سليمى سينفي العار عن هممي ... همّ وعزم وإدلاج وتشمير

سأنزع الرزق من أيدي معاشرها ... فيهم كريم له خيم ولا خير [٤]

قوم إذا أحوج الدهر الخؤون فتى ... إليهم مقلته أعين زور [٥]

ماذا أوّمل من علم ومن أدب ... مع معشر كلهم حول الندى عور

تا الله أطلب من أيديهم أبدا ... رزقا ولي فاتك الحدّين مأثور [٦]

ثم مضى القاضي إلى منزله، وقد ملأ قلبه ما رأى من شجاعته، وشاهد من براعته، وما راقه من علمه، وشاقه من فهمه، فلبس من فاخر ثيابه، وخرج إلى عدوله وأصحابه، فلما استقر مجلسه، وثاب إليه حسّه وأنسه، حدّث عدوله ما لقي في ليلته من التعب، وقاسى من النّصب، وأخذ في/ وصف اللص فأطنب، ومرّ في مدحه فأسهب، وأراق فأعجب، ثم قال: ولقد قلت فيه أبياتا أنعته فيها، وأذكر مقامه وموقفه [٧] ، فقيل له: وما الأبيات أيها القاضي؟ فأنشأ يقول: [البسيط]


[١] العود: المسن من الإبل، والبازل: الذي طلع نابه، وبزل الرجل: كملت تجربته، واستحكم رأيه، وأراد هذا المعنى.
[٢] في ب: لولا تعبدني سلمى. في ل: لولا تفندني سلمى.
[٣] في ب، ش، ل: برص معاش، بالصاد المهملة، والصواب: برض، بالضاد المعجمة، والبرض القليل.
[٤] الخيم: الأصل والسجية والطبيعة.
[٥] مقلته: رمقته ونظرت إليه.
[٦] في ش: (تا الله لا أطلب) ، و (فاتك الجنبين) ، ولا يستقيم بها الوزن، وتا الله أطلب: أي لا أطلب.
والمأثور: ذو الأثر، أي القاطع، والمأثور أيضا: الأثير، أي المفضل.
[٧] (وموقفه) ساقطة من ش.

<<  <   >  >>