للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بواسطة لا بنفسها إلا أن يعلم بها إخباراً.

وقد زعم أهل العقول أنفسهم أن النظريات لا يمكن الاتفاق عليها عادة؛ لاختلاف القرائح والأنظار، وإذا وقع الخلاف فيها، كان لابد من مخبر يأتي بالحق أو مجتهد يُبين الصواب، وقد تعارضت الأدلة لتعارض العقول؛ إذ لابد أن يكون أحد المجتهدين مصيباً والآخر على شبهة، فلابد إذاً من إخبار يكون صادقاً لا يحتمل الكذب أو الضلال، ولا يكون هذا إلا في الوحي والعلم الإلهي الذي يكون على يد رسول.

إذن، لا وثوق بالعقل، ولا مناص من الرجوع إلى الوحي الإلهي.

الوجه الثاني:

لما ثبت قصور العقل في الإدراك والعلم، ثبت أنه قد يحيط بشيء دون آخر؛ لأن علمه غير محيط وشامل، فما ادَّعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها؛ لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه، وعلى حال دون حال، والدليل على ذلك: أحوال أهل الفترات فإنهم وضعوا أحكاماً على العباد بمقتضى السياسات، لا تجد فيها أصلاً منتظماً، وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء، بل استحسنوا أموراً تجد العقول بعد تنويرها يالشرع تنكرها، وترميها بالجهل والضلال، مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها، ومع أنهم كانوا أهل عقول باهرة، وأنظار صافية وتدبيرات لدنياهم شاملة، لكنها بالنسبة إلى ما لم يصيبوا فيه قليلة، فلأجل هذا كله وقع الإعذار والإنذار، وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجَّةً بعد الرسل، والله الحجة البالغة، والنعمة السابغة.

فالإنسان مهما ظن أنه أتقن وأجاد وأبدع في أمر من الأمور إلا ويتبين له قصوره، ويتمنى أن يعيد هذا العمل ويلحظ فيه ما غاب عنه، وهذا يدل على القصور الذي يعتري العقل، ولكن الشرع بخلاف ذلك؛ لأنه من عند الحكيم الخبير، الذي أحاط بكل شيء علماً، وكل شيءٍ عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.

الوجه الثالث:

أن ما ندري علمه في الحياة ينقسم كما تقدم إلى: بدهي، وضروري، وغيره وهو النظر الكسبي، والنظري لا يعرف إلا من طريق ضروري، إما بواسطة أو بغير واسطة؛

<<  <   >  >>