للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذ قد اعترف الجميع أن العلوم المكتسبة لابد في تحصيلها من توسط مقدمتين معترف بهما، فإن كانتا ضروريتين فذاك، وإن كانتا مكتسبتين، فلا بد في اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتين، وينظر فيهما كما تقدم، وكذلك إن كانت واحدة ضرورية وأخرى مكتسبة، فلابد للمكتسبة من مقدمتين، فإن انتهينا إلى ضرورتين فهو المطلوب، وإلا لزم التسلسل أو الدور وكلاهما محال. فإذاً، لا يمكن أن نعرف غير الضروري إلا منهما مما عقلنا وعلمنا من مشاهدة باطنة كالألم واللذة، أو بديهي للعقل كعلمنا بوجودنا، وما أشبه ذلك مما هو معتاد لنا في هذه الدار؛ لأننا لم يتقدم لنا علم إلا بما هو معتاد في هذه الدار. أما الشيء غير المعتاد، فقبل النبوات لم يكن لنا به علم ولا معرفة، فلما جاءت النبوات بما ليس لنا به علم ولا عادة لم نحل ما لم نعرف إلا على ما عرفنا، ولذلك أنكر الناس هذا لأنهم لم يعرفوه، كقلب العصا ثعباناً، وفرق البحر.

وعلى هذا ينبغي إدراك أمرين:

الأول: أن العقل ما دام على هذه الصورة لا يجعل حاكماً بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، بل الواجب على العاقل أن يقدم ما حقه التقديم وهو الشرع، ويؤخر ما حقه التأخير وهو نظر العاقل القاصر؛ لأنه لا يصح تقديم الناقص على الكامل؛ لأنه خلاف المعقول والمنقول.

الثاني: إذا وجد الإنسان في الشرع إخباراً يقتضي ظاهراً خرق العادة المألوفة التي لم يعرفها ولم يسبق له أن رآها، أو علم بها علماً صحيحاً يصدق به، فلا يجوز أن يقدم لأول وهلة الإنكار بإطلاق، بل أمامه أحد أمرين:

إما أن يصدق به حسب ما جاء به، ويكل العلم فيه إلى عالمه، وهو ظاهر قوله تعالى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (١) .

أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر.

والأمثلة على خوارق العادات كثيرة منها:

وزن الأعمال، وعذاب القبر، وإنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها، ورؤية الله في الآخرة (٢) .


(١) -سورة آل عمران: الآية٧.
(٢) - يراجع: الاعتصام (٢/٣٢٨-٣٣١) .

<<  <   >  >>