للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد ورد في بعض التّفاسير صورٌ من الإذلال والإهانة والتحقير، إلا أنّ هذه الأقوالَ ضعيفة، لا يسندها دليل صريح في الكتاب أو السنّة.

فالرّاجح في معنى الصّغار هو جريانُ أحكام الإسلام عليهم، وإلزامُهم تسليم الجزية بأيديهم لا أنْ يرسلوا بها غيرهم، ليتحقق إقرارهم الفعلي بعلو الإسلام على ما عداه من الأديان.

وهذا المعنى هو الذي رجحه كبار المحققين، وهو المتوافق مع تعاليم الإسلام وأخلاقه الرّفيعة (١).

قال ابن القيم - رحمه الله - -بعد أن ذكر روايات صنوف الإهانة والإذلال-: «وهذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو مقتضى الآية، ولا نُقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن الصّحابة أنهم فعلوا ذلك.

والصّوابُ في الآية أنّ الصّغار هو التزامهم لجريان أحكام الملّة عليهم، وإعطاء الجزية، فإنّ التزام ذلك هو الصّغار» (٢).

ثم إنّ في قصةِ وفدِ نصارى نجرانَ ما يُبين الهدي النبوي في التعامل مع أهل الكتاب، وليس فيه شيء من معاني الصغار غير ما تقدم ترجيحه.

فقد كتب لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً أنهم آمنون على أنفسهم، وملّتهم، وأرضهم، وأموالهم، وأنّ الإسلام لا يغير شيئاً مما كانوا عليه، فلا يتدخل في توليةِ أو عزلِ راهب أو أسقف، ولا يعاقب أحداً بظلم غيره.

ثم أرسل معهم أبا عبيدة - رضي الله عنه - (٣) لأخذ الجزية منهم، ولم يأمره بشيء فيه تحقير أو إهانة


(١) للقرطبي - رحمه الله - كلام جميل في تفصيل أحكام الجزية في الإسلام، وبيان ما فيها من عدالة وتسامح. انظر: الجامع لأحكام القرآن ١٠/ ١٦١ - ١٧٢.
(٢) انظر: أحكام أهل الذّمة، ابن القيم ١/ ١٢٠ - ١٢١.
(٣) هو أبو عبيدة، عامر بن عبد الله بن الجرّاح. أحد السّابقين الأولين، وأحد العشرة المبشرين، وأمين هذه الأمّة، وصاحب المناقب الجمّة. رضيه أبو بكر يوم السقيفة مع عمر بن الخطاب ليختار المسلمون أحدهما للخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كان من جمعة القرآن، ومن الموصوفين بحسن الخلق والحلم والتواضع. ولي الشّام زمن عمر فكان آية في العدل والزّهد. مات في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي ١/ ٥ - ٢٣.

<<  <   >  >>