للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللَّذَين امتنَّ اللَّه بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله -تَعَالَى- عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: ٨٢]؛ أي وإنما فعلته عن أمر اللَّه -جل وعلا-، وأمر اللَّه إنما يتحقق عن طريق الوحي؛ إذ لا طريق تُعْرَفُ بها أوامر اللَّه ونواهيه إلا الوحي من الله -جلا وعلا-، ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سُفُن الناس يخرقها؛ لأن العدوان على أنفس الناس، وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله -تعَالَى-، وقد حَصَرَ -تَعَالَى- طُرُقَ الإنذار في الوحي في قوله -تَعَالَى-: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: ٤٥]، و"إنما" صيغة حصر، فإن قيل: قد يكون ذلك عن طريق الإلهام.

فالجواب: أن المقرر في الأصول: أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء؛ لعَدَمِ العصمة، وعدمِ الدليل على الاستدلال به.

بل ولوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به، وما يزعمه بعض المُتصَوِّفَةِ من جوَازِ العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضًا من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره، جاعلين الإلهام كالوحي المسموع، مُسْتدِلِّينَ بظاهر قوله -تَعَالَى- {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: ١٢٥] (١)، وبخبر: "اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ؛ فإنَّهُ يَنْظُرُ بنُورِ اللَّهِ" (٢)، كله باطل لا يُعَوَّلُ عليه؛ لعدم اعتضاده بدليل، وغير


(١) والجواب عن استدلالهم بالآية هنا: أن شرح الصدر لا يراد به الإلهام كما زعموا، ولكن المراد به شرح الصدر بنور التوفيق حتى ينظر في الحجج والأدلة، فيستنبط منها بفضل الله -تعالى-.
(٢) رُوي من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي أمامة الباهلي، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وثوبان -رضي الله عنهم-، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (٣/ ١٤٦)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" (١٨٢١)، وكذا ضعفه محقق "مسند الشهاب" (١/ ٣٨٧)، وانظر: "المقاصد الحسنة" (٥٩)، و"فيض القدير" للمناوي (١/ ١٤٢).

<<  <   >  >>