للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الشرع؛ كمخالفة ما فعله الخَضِرُ لظاهر العلم الذي عند موسى - زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره.

وقال القرطبي -رحمه الله- في "تفسيره" (١) ما نصه: "قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يُحْكَمُ بِهَا على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء، وأهل الخصوص؛ فلا يَحْتَاجُونَ إلى تلك النصوص؛ بل إنما يُرَادُ منهم ما يقَعُ في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم، وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسررار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخَضِرِ؛ فإنه استغنى بما تجَلَّى له من العلوم عمَّا كان عند موسى من تلك الفهوم (٢)، وقد جاء فيما ينقلون: "اسْتَفْتِ قَلْبَك وَإنْ أفْتَاكَ المُفْتُونَ"، قال شيخنا -رضي اللَّه عنه-: وهذا القول زندقة وكفر، يُقْتَلُ قائله، ولا يُسْتَتَابُ؛ لأنه إنكار ما عُلِمَ من الشرائع؛ فإن اللَّه -تَعَالَى- قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تُعْلَمُ إلا بواسطة رسله السُّفَرَاءِ بينه وبين خلقه، وهم المُبَلِّغُونَ عنه رسالته، وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصَّهُمْ بما هنالك؛ كما قال -تَعَالَى-: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: ٧٥]، وقال -تَعَالَى-: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: ١٢٤]، وقال -تَعَالَى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: ٢١٣]، إلى غير ذلك من الآيات، وعلى الجملة، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا


(١) "الجامع لأحكام القرآن" (١١/ ٤٠، ٤١).
(٢) وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل الرد على هذا الزعم ص (٢٥٨) وما بعدها.

<<  <   >  >>