وأما اليونان (الإغريق) فقد دخلوا في الدين الجديد أفواجًا أفواجًا أيضًا، يقول (منسي): (وفي عهد البابا أنيانوس نجحت التعاليم المسيحية، واتَّسع نطاقها، وتمذهب بها الكثيرون من أرباب المناصب العالية والأكابر والأعيان، وبعض رجال الدولة)[ص: ٢٩]، وهؤلاء الأكابر وأصحاب المناصب إنما كانوا إما من الإغريق أو الرومان.
وتتضح الصورة أكثر إذا ما نظرت في قائمة أسماء آباء كنيسة الإسكندرية، أو مديري المدرسة اللاهوتية، فلا تجد غير الأسماء اليونانية، فمثلًا (إكليمنضس) مدير المدرسة اللاهوتية بالإسكندرية، تقول (بتشر) في حقِّه: (اسم هذا الرجل الشهير هو < تيطس فلافيوس إكليمنضس >، وفيه إشارة إلى وجود بعض الصلة بالعائلة الإمبراطورية) (١٤)، وللعلم فإن (تيطس) هو اسم روماني خالص. وكذلك أستاذه (بنتيوس) وأول مدير لمدرسة اللاهوت كان صِقليًّا، وهكذا إذا استعرضت باقي القائمة لم تظهر إلَّا الأسماء ذات الصبغة اليونانية (أوريجانوس)، (ألكسندروس)، (أثناثيوس)، (ديمتريوس)، ... ألخ، واليهود كانوا قد درجوا في العصر الهيلينسي والروماني على استخدام الأسماء الإغريقية والرومانية، بعكس المصريين الخلص، أما أبناء الزيجات المختلطة بين المصريين واليونان فكانت أسماؤهم إغريقية أيضًا.
ونظرًا لغلبة الجنس الإغريقي واليهودي على مسيحيي مصر أصدر الإمبراطور (ساويرس) في سنة ٢٠٢م أمرًا يُحرِّم فيه على رعاياه الدخول في الديانة المسيحية أو اليهودية في مستقبل الأيام (١٥)، حيث كان يخشى الأباطرة في ذلك الحين من أن تجمع هؤلاء رابطة الدين الجديد وتشجعهم للخروج عليه، إذ أن اليهود كانوا دائمي الثورة على الرومان، والإغريق كانوا ينقمون على الرومان لأنهم سلبوهم ملكهم وسلطانهم من وجهة نظرهم، وتلك الأسباب هي التي جرَّت على المسيحيين من اليهود واليونان الويلات والاضطهاد التي لم يعانيها مسيحيِّو روما وسائر مسيحيي الإمبراطورية، وذلك لانتفاء الأسباب السابقة في حقهم (١٦).
وهكذا ظلت المسيحية غريبة على الشعب المصري وكهنتهم، الذين حرَّضوا الإمبراطور (فاليريان) على اضطهاد المسيحيين «٢٥٧م-٢٦٠م» لما بينهم من العداء، وبخاصة إنكار الكهنة المصريين لمسألة الصلب (١٧).
وأما المصريون الخُلَّص من الفلاحين فلم يكن يأبه لهم، أي من السلطة أو الإغريق أو اليهود، ويؤكد ذلك ما وقع من اضطهاد عام للمسيحيين في الإمبراطورية لما كثرت محاولات الخروج على السلطة في بلدان عدة بأنحاء المملكة، وربما عانت