للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟ وجعل المعتصم يقول: ويحك، أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، فقلت: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب الله، فيرجع، وقال للجلادين: تقدموا، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد، قطع الله يدك! قال أبي: فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أُطلقت عنى، فقال لي رجل ممن حضر: إنا كببناك على وجهكِ، وطرحنا على ظهرك باريةً ودُسْناك! قال أبي: فما شعرت بذلك، وأتوني بسوِيق فقالوا لي: اشرب وتقيأ، فقلت: لا أفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من الصلاة قال لي: صليتَ والدم يسيل في ثوبك؟ فقلت: قد صلى عمروجرحه يثعبُ دمًا.

قال صالح: ثم خُلي عنه فصار إلى منزله، وكان مكثه في السجن، منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب وخُلي عنه، ثمانيةً وعشرين شهرًا. ولقد أخبرني أحد الرجلين اللذْين كانا معه، قال: يا ابن أخي، رحمة الله علي أبي عبد الله، والله ما رأيت أحدًا يشبهه، ولقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام: يا أبا عبد الله، أنت صائم، وأنت في موضع تَقيَّة (١)، ولقد عطش فقال لصاحب الشراب: ناولنى، فناوله قدحًا فيه ماء وثلجَ، فأخذه ونظر إليه


(١) التقية إنما يجوز للمستضعفين الذين يخشون أن لا يثبتوا على الحق، والذين ليسوا بموضع القدوة للناس، وهؤلاء يجوز لهم أن يأخذوا بالرخصة. أما أولو العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون، وفى سبيل الله ما يلقون. ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة لضل الناس من ورائهم، يقتدون بهم، ولا يعلمون أن هذه تقية. وقد أتي المسلمون من ضعف علمائهم في مواقف الحق، لا يصدعون بما يؤمرون، يجاملون في دينهم وفى الحق، لا يجاملون الملوك والحكام فقط، بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعَا، أو خافوا ضراً في الحقير والجليل من أمر الدنيا. وكل أمر الدنيا حقير.
فكان من ضعف المسلمين بضعف علمائهم ما نرى. ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين، فيما كتب إلى أبي رحمه الله، من خطاب سياسي عظيم، في=

<<  <  ج: ص:  >  >>