جمهور المؤمنين، وهو الأمر الذي أهاب الله تعالى بالمؤمنين أن يحرصوا عليه، وضمن لهم في سبيل ذلك تمكينًا سريعًا، وزحفًا منصورًا، وعونًا من جند الله يفوق كل قوة وكل جبروت وكل سلاح، وصادف هذا النصح الإلهي من القلوب حبًّا لا يقاوم للقرآن.
وتدعيمًا لذلك فقد كان القرآن دستورًا حضاريًّا للعمل على مستوى الأمة كلها، عن طريق الحفظ والدرس والتلاوة الواعية والتدبر والاقتناع والتذكر والتطبيق السلوكي الدقيق، والدليل على أن تحويل القرآن إلى سلوك لم يفرض على المؤمنين بعصا السلطان؛ وإنما جاء عن طريق الدرس والتدبر والاقتناع بعظمة القرآن -ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن -كعثمان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعملوا بما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا؛ ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا، وأقام عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- على حفظ البقرة ثماني سنين.
ويضيق بنا المقام إذا استقصينا أقوال الصحابة في هذا الصدد؛ ولكن الذي نريد أن نوضحه هنا هو أن سرعة الحضارة القرآنية في الانتشار والتأصل نابعة من هذا الينبوع العريق في الأصالة، فلا تتعثر الحضارات إلا من جهل الشعوب بالدساتير وأهدافها، أو من قصور تلك الدساتير في ذاتها، أو في إقناع الشعوب بجدواها، وفي كلا الحالين تختلف الشعوب مع السلطات، وتتمرد على القانون، ومن هنا لا تسرع الحضارة في سيرها نحو غايتها على فرض صلاحيتها، فضلًا عن النفقات الهائلة التي