لا حرية مطلقة للإنسان في هذه الدنيا، هكذا تنطق شواهد الفطرة التي جبل الله عليها الإنسان، وقامت عليها الشواهد في شريعته مما يمارسه نفس ذلك الإنسان الذي يدَّعي لنفسه الحرية والسيادة والغنى وهمًا وسرابًا لا حقيقة له في الذات ولا في الصفات، كما قرر القرآن.
والنموذج الواضح الذي يمكن الوصول من خلاله إلى هذه النتيجة الفطرية هو الغنى الذي ساد الناس بزعمه من جبابرة المال وملوك الأرض، حتى ملك العبيد، وخضعت له الرقاب، وجمع الجنود، واستولى على الأرض، فما له من منازع في أمر، ولا معقب في رأي، مطاع على عزة وامتناع في أنظار العامة من غير المستبصرين الباحثين عن الحقيقة في أصل الفطرة.
ويقول الإمام أبو زيد الدبوسي ردًّا على تلك الدعوى العريضة: إن هذا المدعِي للحرية والملك ما استقر سلطانه، وعلا مكانه بفطرته؛ وإنما بجنوده، وبأس عبيده، لا يستغني عنهم ساعة لاستدامة ما هو فيه، فهو يطلبهم بهواهم، وينيلهم مناهم، صدقًا برغبته فيهم، والناس يطيعونه رياء لخوفهم منه، أو طمعًا فيما في يده، وهو يطيع هوى من دونه، وهم يطيعون من فوقهم، وطاعته لهوى الناس ضرورية، وطاعة الناس له ليست ضرورية؛ لبقاء منزلتهم في أنهم عبيد فقراء مأمورون بلا وال، غير أن طاعة الناس له بأجسامهم، وطاعته لأهوائهم بقلبه فاستترت وما ظهرت إلا لأهل البصائر.
ويمضي الإمام الدبوسي في بيان العجيب إلى أن يقول مخاطبًا هذا النوع ممن يدعون الحرية والغنى:
فعميت وجلست على سرير العبودية للعبيد، وكان ائتمارك للجنود، وأحاطت بقلبك المكاره والآفات، وظننت أنك ملك، هيهات. ما أنت إلا مأمور حشمك، والرعية مأمور ملكهم، غير أن النفس لبست عليك مقام الائتمار بمسارعتك إلى الفعل قبل الأمر.