ويمضي الإمام الدبوسي في بيانه العجيب إلى أن يقول مخاطبًا هذا النوع من الناس فيقول:
إن تصرفك في أموالك كلها متردد بين جائز مأمور به، وفاسد منهي عنه، وما هكذا علامة الملك والقهر؛ لكنه علامة الإذن على الفقر، غير أن الله تعالى خلقك للابتلاء مدة بقائك، وقرن بقاءك بغذائك، وخلق مما في الأرض منفعة لك إلى وقت انقضائك، فقسم لكل عبد نصيبًا مفرزًا؛ كي لا يتغالبوا فيتفانوا وجعل عليهم من أصلحهم قيمًا وهو السلطان، فهم يتمتعون بالأنصباء من يد القيم من أحوال طفولتهم وصغرهم، فإذا عقلوا سلمت إليهم الأنصباء لحق الإذن في التجارة دون إثبات الملك، فإذا بلغوا وكملت الحالة، ضربت عليهم الضرائب للمولى، وخوطبوا بأدائها مدة الحياة ليعتقوا إذا أدوا، وسلمت إليهم للحال الأنصباء لحق الإذن تسليم يد؛ ليتصور الأداء بحكم تباين الأيدي، وإن لم يكن في الحقيقة ملكًا للمؤدي، حتى لم يملكوا من أموالهم إلا بمقدار ما فك الله الحجر عنهم بالعقد.
وهنا يتصل هذا الموضوع بموضوع الرق في القرآن والشريعة بعدما انحسم القول في مشكلة الملك والحرية، والنصوص القرآنية المتعارضة في الظاهر، من حيث يثبت الملك في بعض النصوص للإنسان، ويرجع الملك كله لله وينتفي عن الإنسان في النصوص الأخرى، ثم يتصل الموضوع الواحد للقرآن بالتشريعات المالية وفروعها تحقيقًا للملك الإلهي والقدر المتاح للعباد بالتصرف، ثم بموضوع البقاء الإنساني بالتكاثر بعدما بقي المال، وما يتبع ذلك من أبواب التشريع، ثم بموضوع المجتمعات الإنسانية وحضاراتها التي لا تزدهر إلا تحت الأمر الإلهي، ولا تندثر إلا تحت التمرد على تلك الأوامر، وبموضوع القصص القرآني وتوجيه النظر نحوه في حركة التاريخ تحقيقًا لهذا الأصل الفطري الذي تدرج حتى وصل إلى قاعدة أوسع يحتمل فيها النسيان؛ ولهذا شرعت العبادات والذكر لدوام التذكر.