وممّن أدركته وعاشرته عبد الوهاب بن حسين بن جعفر الحاجب، وذكرته هنا لأنّه ملحق بالأمراء المتقدمين غير خارجٍ منهم ولا مقصرٍ عنهم، بل كان واحد عصره في الغناء الرائق، والأدب الرائع، والشعر الرقيق، واللفظ الأنيق، ورقة الطبع، وإصابة النادر، والتشبيه المصيب، والبديهة التي لا يلحق فيها؛ مع شرف النفس، وعلوّ الهمة، وكان قد قطع عمره، وأفنى دهره، في اللهو واللعب، والفكاهة والطرب، وكان أعلم الناس بضرب العود، واختلاف طرائقه، وصنعة اللحون، وكثيراً ما يقول المعاني اللطيفة في الأبيات الحسنة، ويصوغ عليها الألحان المطربة البديعة المعجبة، اختراعاً منه وحذقاً، وكانت له في ذلك قريحةٌ وطبعٌ، وكان إذا لم يزره أحدٌ من إخوانه أحضر مائدته وشرابه عشرة من أهل بيته، منهم ولده وعبد الله ابن أخيه وبعض غلمانه، وكلهم يغنّي فيجيد، فلا يزالون يغنون بين يديه حتى يطرب، فيدعو بالعود ونغني لنفسه ولهم، وكان بشارة الزامر الذي يزمر عليه من حذّاق زمرة المشرق؛ وكان بعيد الهمّة سمحاً بما يجد، تغلّ عليه ضياعه كلّ عامٍ أموالاً جليلةً، فلا تحول السنة حتى ينفد جميع ذلك ويستسلف غيره، فكان لا يطرأ من المشرق مغنّ إلا سأل من يقصد بهذا الشأن، فيدل عليه، فمن وصله منهم استقبله بصنوف البر والإكرام، وكساه وخلطه بنفسه ولم يدعه إلى أحدٍ من الناس، فلا يزال معه في صبوحٍ وغبوقٍ، وهو مجدّدٌ له كل يومٍ كرامةٌ، حتى يأخذ جميع ما معه من صوتٍ مطربٍ أو حكايةٍ نادرةٍ.
وجلس يوماً وقد زاره رجلان من إخوانه، وحضر أقرباؤه، فطعموا وشربوا وأخذوا في الغناء، فارتجّ المجلس، إذ دخل عليه بعض غلمانه فقال: بالباب رجلٌ غريبٌ عليه ثياب السفر، ذكر أنّه ضيفٌ، فأمر بإدخاله، فإذا رجلٌ أسمرٌ سناطٌ (١) ، رث الهيئة، فسلّم عليه، قال: أين بلد الرجل؟