للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالعالم منهم بارع لأنّه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه، وينفق من عنده حتى يعلم، وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظّاً عظيماً عند خواصهم، ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنّه كلّما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة (١) اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زلّ في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقرباً لقلوب العامة، وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدة، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه وإن كان غير خالٍ من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري، الله أعلم.

وقراءة القرآن بالسبع ورواية الحديث عندهم رفيعة، وللفقه رونقٌ ووجاهة، ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك، وخواصهم يحفظون من سائر المذاهب ما يباحثون به محاضر ملوكهم ذوي الهمم في العلوم. وسمة الفقيه عندهم جليلة، حتى إن الملثمين كانوا يسمون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه، وهي الآن بالمغرب بمنزلة القاضي بالمشرق، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي فقيه لأنها عندهم أرفع السّمات. وعلم الأصول عندهم متوسط الحال، والنحو عندهم في نهاية من علو الطبقة، حتى إنهم في هذا العصر فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا جدّةً، وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه، وكل عالم في أيّ علم لا يكون متمكناً من علم النحو - بحيث لا تخفى عليه الدقائق - فليس عندهم بمستحق للتمييز، ولا سالم من الازدراء، مع أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الانحراف عمّا تقتضيه أوضاع العربية، حتى لو أن شخصاً من العرب سمع كلام الشلوبيني أبي عليّ المشار إليه بعلم النحو في عصرنا الذي غرّبت تصانيفه


(١) العامة: سقطت من ك.

<<  <  ج: ص:  >  >>