للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التراب والماء والنار، وارتحل عنها المسلمون وقد عمتها المصائب، وأصمى لبتها السهم الصائب، وجللتها القشاعم العصائب، فالذئاب في الليل البهيم تعسل، والضباع من الحدب البعيد تنسل، وقد ضاقت الجدل عن المخانق، وبيع العرض الثمين بالدائق، وسبكت أسورة الأسوار، وسويت الهضاب بالأغوار، واكتسحت الاحواز القاصية سرايا الغوار، وحجبت بالدخان مطالع الأنوار، وتخلفت قاعتها عبرة للمعتبرين وعظة للناظرين، وآية للمستبصرين، ونادى لسان الحمية، يا لثارات الإسكندرية، فأسمع آذان المقيمين والمسافرين، وأحق الله الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين.

ثم كانت الحركة إلى أختها الكبرى، ولدتها الحزينة عليها العبرى، مدينة أبدة (١) ذات العمران المستبحر، والربض الخرق المصحر، والمباني الشم الأنوف، وعقائل المصانع الجمة الحلي والشنوف، والغاب الأنوف، بلدة التجر، والعسكر المجر، وأفق الضلال الفاجر الكذب على الله تعالى الكاذب الفجر، فخذل الله تعالى حاميتها التي يعيي الحسبان عدها، وسجر بحورها التي لا يرام مدها، وحقت عليها كلمة الله تعالى التي لا يستطاع ردها، فدخلت لأول وهلة، واستوعب جمها والمنة لله تعالى في نهلة، ولم يكف السيف من عليها ولا مهلة، فلا تناولها العفا والتخريب، واستباحها الفتح القريب، وأسند عن عواليها حديث النصر الحسن الغريب، وأقعدت أبراجها من بعد القيام والانتصاب، وأضرعت مسيفها (٢) لهول المصاب، انصرف عنها المسلمون بالفتح الذي عظم صيته، والعز الذي سما طرفه واشرأب ليته، والعزم الذي حمد مسراه ومبينه، والحمد لله ناظم الأمر وقد راب شتيته، وجابر الكسر وقد أفات الجبر مفتيه.


(١) أبدة (Ubeda) - بتشديد الباء - إلى الشمال الشرقي من جيان.
(٢) المسايف: جمع مسيف، ويعني بها لسان الدين في الأرجح، المدماك (أي السطر من البناء) .

<<  <  ج: ص:  >  >>