للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهكذا يتكلم بنحو هذا في جميع العبادات، ويقول: سرّ الصوم أن تجوع، فإذا جعت تذكرت الجائع، وما يقاسيه من نار الجوع، فتتصدق عليه، فمن صام ولم يعطف على الجائع فكأنّه لم يصم، إلى غير ذلك من كلامه في مثل هذا.

وكان إذا أتاه امرؤ يأمره بالصدقة، ويقول له: تصدق، ويتفق لك ما تريده، وأخباره في ذلك كثيرة عجيبة.

قال التادلي: وحدثني ولده الفقيه أبو عبد الله عن أبيه أنّه قال: كان ابتداء أمري وأنا صغير أنّي سمعت كلام الناس في التوكل، ففكرت في حقيقته (١) فرأيت أنّه لا يصح إلا بترك شيء، ولم يكن عندي منه [بد] ، فتركت الأسباب، واطّرحت العلائق، ولم تتعلّق نفسي بمخلوق، فخرجت سائحاً متوكّلاً، وسرت نهاري كلّه فأجهدني الجوع والتعب، وقد نشأت في رفاهية [من العيش] (٢) ، وما مشيت قط على قدمي، فبلغت قرية فيها مسجد، فتوضأت ودخلت المسجد فصليت المغرب ثم العشاء، وخرج الناس، فقمت لأصلي، فلم أقدر من شدة الجوع والتألّم بالمشي، فصليت ركعتين، وجلست أقرأ القرآن إلى أن مضى جزء من الليل، فإذا قارع يقرع الباب بعنف، فاستجاب له صاحب الدار، فقال له: هل رأيت بقرتي فقال: لا، فقال: إنّها ضلت وقد أكثر عجلها من الحنين فطلبتها فلم نجدها في القرية، فقال أحدهم: لعلّها [دخلت] في المسجد وقت العتمة، ففتحوا باب المسجد ودخلوا فوجدوني، فقال صاحب البقرة: ما أظنّك أكلت الليلة شيئاً، فذهب وجاءني بكسرة خبز وقدح لبن، ثم ذهب ليأتيني بالماء فوجد بقرته في داخل الدار، فخرج لجيرانه وقال لهم: ما زالت البقرة من الدار، وما كان خروجي إلا لهذا الفتى الجائع في المسجد، ثم رغّبني أن أمشي معه لمنزله، فأبيت.


(١) ق: دقيقة، والتصويب عن الأعلام.
(٢) سقطت من ق.

<<  <  ج: ص:  >  >>