للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان في أول أمره يسكن في الفندق (١) ويعلّم الحساب والنحو ويأخذ الأجرة على ذلك، وينفقها على طلبة العلم الغرباء، ويمشي في الأسواق، ويذكّر الناس، ويضربهم على ترك الصلاة، ويأتي بالطعام على رأسه.

وبات ليلة عند الطلبة فارتفعت أصواتهم بالمذاكرة، فإذا بالحرس قد قرعوا باب الفندق فقام إليهم القيّم بخدمته، فقالوا له: ما تعلمون أن من رفع صوته باللّيل يقتل ثم قعد اثنان من الحرس على باب الفندق ليحملونا إذا طلع الفجر للوالي (٢) ، فجاء القيّم فأخبرنا فأدركنا خوف عظيم، وأيقنّا بالهلاك، فأخذ أبو العباس في الضحك ولا يبالي، ثمّ خلا بنفسه عند السحر ساعة ثم قال لنا: لا خوف عليكم، قد استوهبتكم من الله تعالى، وهذان الحرسيان الواقفان غداً يقتلان إن شاء الله تعالى، فقيل له: الجزاء عندك على الأفعال من الخير والشر، وهما لا يفعلا ما يوجب قتلهما، بل جزاؤهما يروّعان كما روّعانا، فقال: العلماء ورثة الأنبياء، وترويعكم عظيم لا يقابله منهم إلا القتل، فمازلنا نعارضه في ذلك حتى قال: عقوبتهما أن يضرب كل واحد منهما مائة سوط، ثم اجتاز عبد الله الخرّاز صاحب الوقت بالجامع الأعظم، فوجد حانوته (٣) مفتوحاً، ورأى الحرسيين على قرب، فلم يشكّ أنهما حلاّه (٤) ، فحملا إلى ربحة القصر قبل طلوع الفجر، فقال لنا أبو العباس: احضروا على ضربهما كما أرادا قتلكم، فتبعناهما، وحضرنا حتى ضرب كل واحد مائة سوط.

وكراماته ومناقبه كثيرة لا تحصى.

وكان يقول (٥) : أصل الخير في الدنيا والآخرة الإحسان، وأصل الشرّ فيهما البخل، قال الله تعالى " فأمّا من أعطى (الليل: ٥) وقال عن إبليس " ثمّ


(١) زاد التادلي في الأصل: الفندي الذي بأدجير، المعروف بفندق مقبل.
(٢) الأعلام: لنقتل.
(٣) ق: تابوته.
(٤) حلاه: فتحاه؛ وفي الأعلام: فتحاها.
(٥) انظر الأعلام: ٢٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>