وهذه تورية بديعة للغاية في التعصب والتقنّع، مع حلاوة النظم وجودة السبك وخفّة الوزن، والله سبحانه يروّح تلك الأرواح في الجنان، ويعاملنا وإيّاهم بمحض الفضل والامتنان، ويكفينا شجون دهر جرى بنا طلق العنان.
حديث عن الزهراء
رجع إلى ما كنّا فيه: وكنت وقفت في كلام بعض العلماء على أن البيتين السابقين المنسوبين إلى أمير المؤمنين الناصر المرواني - رحمه الله تعالى - قالهما في الزهراء التي بناها، وسيأتي ذكرها قريباً.
وقال الشيخ سيّدي محيي الدين بن عربي في المسامرات: قرأت على مدينة الزهراء بعد خرابها وصيرورتها مأوى الطير والوحش، وبناؤها عجيب في بلاد الأندلس، وهي قريبة من قرطبة، أبياتاً تذكّر العاقل، وتنبّه الغافل، وهي:
ديارٌ بأكناف الملاعب تلمع ... وما إن بها من ساكنٍ وهي بلقع
ينوح عليها الطير من كل جانب ... فيصمت أحياناً وحيناً يرجّع
فخاطبت منها طائراً متغرّداً (١) ... له شجنٌ في القلب وهو مروّع
فقلت: على ماذا تنوح وتشتكي؟ ... فقال: على دهرٍ مضى ليس يرجع ثم قال: وأخبرني بعض مشايخ قرطبة عن سبب بناء مدينة الزهراء أن الناصر ماتت له سرّيّة، وتركت مالاً كثيراً، فأمر أن يفك بذلك المال أسرى المسلمين، وطلب في بلاد الإفرنج أسيراً فلم يوجدن فشكر الله تعالى على ذلك، فقالت له جاريته الزهراء؟ وكان يحبّها حبّاً شديداً -: اشتهيت لو بنيت لي مدينة تسميها باسمي، وتكون خاصّة لي، فبناها تحت جبل العروس من قبلة الجبل، وشمال قرطبة، وبينها وبين قرطبة اليوم ثلاثة أميال أو نحو ذلك، وأتقن بناءها، وأحكم الصنعة فيها، وجعلها مستنزها ومسكناً للزهراء