للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن تسمعها من رجل طموح كان يريد الزعامة، وكان قد شقي بالمصادرة وفقد كل ثروته. والحقيقة أن هذه الشكاوي لا تعبر عن تلك الفترة الهادئة وإنما تعبر عما أصاب المسلمين قبل سنوات. ويحس من يقرأ كلمات فلقندو انه كان قد جرى على المسلمين من الأذى في أنفسهم وعقيدتهم ما يزرع الخوف في النفوس ولا يدع للهدوء طريقاً إلى القلوب، أو يبشر بنسيان الإساءة.

ومن المثالية أيضاً أن ندعي بأن المطالبات المالية كانت تجري دائماً على حسب القوانين، وتقرر عند رأى العدالة، وقد سمع ابن جبير عن فقيه اسمه ابن زرعة ضغط بالمطالبة فأظهر فراق دين الإسلام والانغماس في دين النصرانية ومهر في حفظ الإنجيل، ومطالعة سير الروم، وحفظ قوانين شريعتهم، فعاد في جملة القسيسين في الأحكام النصرانية، وكان له مسجد بإزاء داره أعاده كنيسة (١) .

ولم يكن مما يهون على الناس يومئذ - وربما لا يهون ابداً - أن يروا مركز عبادتهم قد حول إلى مكان لعبادة قوم آخرين. ولم تكن ترتاح النفوس لذلك التظاهر الصاخب بالشعائر، فتلك الطبول والبوقات كانت تزعق في أسماء أهل الدين الآخر بأصوات التحدي، وتدوي بالكراهية المتبادلة التي تغطي بقشرة رقيقة من الهدوء.

بل لعل أدق ما اطلع عليه ابن جبير من أحوال صقلية اتخاذ مفارقة الدين سلاحاً يشهره في وجه أبيه، والزوجة في وجه زوجها، ويذهب الغاضب فينتصر ويتعمد، فهم الدهر في مداراة الأهل والولد خوف هذه الحال (٢) . ولا ننس ذلك الخوف على العرض ولذلك فلا عجب أن نرى أ؛ د الآباء وجاء يهدي ابنة له صغيرة السن إلى أحد الحجاج، لعله ينقلها معه ويتزوجها أو يزوجها ممن يرتضيه لها، رغبة منه أن يجنبها ما قد يخبئه القدر لمثيلاتها من فتيات


(١) ابن جبير: ٣٤٠ والمكتبة: ١٠١.
(٢) المصدر نفسه: ٣٤٢ والمكتبة: ١٠٣.

<<  <   >  >>