للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتحت هذا المبدأ لا يمكن أن ينشط الزجل، ولا يمكن للنقاد ومؤرخي الأدب أن يرعوه ويتعهدوه بالتسجيل، إن وجد، وإلى حد ما تمتاز الأندلس على إفريقية وصقلية في هذه الناحية.

ولتلك المدرسة كثير من الحسنات فمن ذلك تفرقها بين الذوق الحضري والبدوي، وإقرارها بتأثير البيئة أو ما يسمى اختلاف المقامات والأزمنة والبلاد. ولكنها من ناحية أخرى خضعت خضوعاً تاماً للقواعد الكلاسيكية حتى في طريقة الخلق: كيف ننظم؟ ومتى ننظم؟ وماذا ننظم؟ وماذا نأكل ليعتدل المزاج ونصبح قادرين على النظم؟ وكانت تغلو في تطبيق المبادئ المشرقية فإذا اقر المشرقيون نشبيه واحد بثلاثة زاد على ذلك، فوجدوا تشبيهه بأربعة أوقع وأحسن، ولذلك فإنهم حيثما وصلهم قول البحتري (١) :

كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منظم أو برد أو أقاحْ جعلوه:

كأنما يبسم عن لؤلؤ ... أو فضة أو برد أو أقاح وليست صورة الضعف في الشعر الصقلي محدودة بالتقليد لنماذج المشرق والقيروان، بل تتمثل في نواح أخرى منه، فنحن نفقد في ذلك الشعر صورة للصراع بين المذاهب الإسلامية، مع العلم بأن صقلية خضعت أولاً للخلافة العباسية ثم للفاطميين، وأنه كان فيها - إلى حد ما - ميلان متصارعان، غير أن هذا الصراع ضعيف باهت فيما وصلنا من شعر.

والشعر كذلك قاصر عن تصوير ذلك القلق الذي كان يتمثل في كثرة التقلب. فها هنا شعب يثور ثم يعود إلى الندم والبكاء، ثم يهب ثائراً وهو لا يزال يبكي ويستعطف، شعب عاطفي سريع الغضب يقوم في طلب حقه فإذا سمع كلمة ترضيه عاد إلى الهدوء وقنع بالقليل، ثم شعر بالندم لقبوله ذلك القليل، شعب قليل الصبر شديد الجزع كلما حزبه أمر فزع إلى نصير،


(١) العمدة ١:١٩٨.

<<  <   >  >>