للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويؤمن بالرأي في قوة ويندفع في سبيل تحقيقه، فإذا لم يقطف الثمرة بسرعة خلاه إلى غيره. ومنذ القديم وصفه شيشرون بأنه مطبوع على التذمر، وليس الذنب ذنبه فقد عرف في كل حكومة سيطرت عليه معنى السيد المسترق، فهو يتلمس دائماً سيداً خيراً من سيده ليطمئن إلى حال من حاله. ولقد ذاق طعم العبودية في ظل ناس، فما عليه لو حاول أن يتخلص منها أو أن يتلمسها في ظل آخرين أخف وطأة وتعسفاً. وحقيقة الأمر أن تقلب الحاكمين عليه جعله مستغلا ليس له من الحياة غلا شرف الخدمة إرضاء لحاكميه. فهو طيب إذا ملأ خزائن سيده بالمال وعنابره بالقمح واسطبلاته بالخيول. فهل تخلق هذه الحال في نفسيته إلا التذمر والإذعان للبادرة الأولى والثورة كلما واتت الفرصة، والتعلق بالآمال القليلة والتغذي باليأس الكثير، والحقد على السيد الجشع. وإذا كان قد عاش ايام الحكومة الإسلامية في رخاء نسبي، فقد كان هذا الرخاء مصدر قووة جديدة في الخصام - لأنه وجد بعض حقوقه فلم لا يستكملها؟ وقد تفتحت عيناه بصورة أكبر على ما حرمه فلم لا ينال ما حرم؟ ومع كل ذلك الرخاء النسبي فقد ظل اليأس في حياته أكبر من الأمل - كان يرى الزعامة في يد جماعة غرباء عنه، وفرض عليه أن يكون جنديا، وهو يكره القتال، وألقي في روعة معنى الاستشهاد، فلم يفهمه، كان يطلب الحياة والراحة ويقاوم الجهد والفقر والفناء، ويهرب من تلك الأشباح فيتعبد أو يسلك نفسه معلما في كتاب.

ولم يعبر الشعر عن شيء من هذا، وإنما عبرت عنه الأحداث والثورات، ولم يكن أسرع من الجماعة الصقلية إلى التعبير من عدم الرضى بالعمل، ولا أسرع منها إلى ارتجال الموقف الملائم وارتداء الثوب المعد تمهيداً لانتهاز الفرصة. فلم يعمق في نفسها الحزن لأنها لم تكن تتجرع مرارة الكبت الطويل، ولا كانت تستسلم إلى شيء من الفكاهة لتروح به عن نفسها المتألمة، وكانت إلى ذلك كله تنفر من الغرباء لأنها ترى فيهم نوعاً من " المستغلين " ولا تحب من الطراء إلا من يسرع الرحيل. فهي تحب الغرباء العابرين وتكره أولئك الذين يأتون أفواجاً إلى الجزيرة ليزاحموا في رزقها، وقصر الشعر أيضاً في التعبير عن هذا الصراع

<<  <   >  >>