الاقتصادي، واكتفى الرحالون الذين صدمتهم هذه المشاعر بأن يصفوا صقلية بالجفاء - وهو جفاء ينعدم فيه لطف أهل المدن وملقهم اللساني، وتبرز من خلاله صورة للطبيعة الريفية الساذجة التي لا نستطيع أن توارب كثيراً من عواطفها، وهو جفاء نحسه في الشعر نفسه فإنه قل أن يجيء ملطفاً بشيء من رقة الحضارة التي تطالعنا في الشعر الأندلسي.
أوضح الصور في الشعر الصقلي وأقواها صورتان تمثلان جانبي الصراع في حياة المدينة، وهذه ميزة عامة في الشعر العربي منذ مطلع العصر العباسي، فقد انقسمت الحياة بين اليمين واليسار، بين آخذين بأسباب الدين والزهد والتقوى يدعون الناس إلى التحلي عن الدنيا ولذاتها ويخوفونهم العذاب، وبين آخذين بأسباب من الحياة المستهترة الماجنة، يرون في إشباع النفس من لذة الخمر والحب وغيرها، خير ما يسعى إليه الإنسان. وانقاد الشعر لهؤلاء وهؤلاء، ولكن رعاة التقوى والزهد هزموا في ميدان الحياة، لأن الفن صورة للحياة لا دعوة للآخرة. وكلا الاتجاهين يدلنا على اثر المدينة - لا أثر الطبيعة والريف - في حياة الشعر العربي على مر العصور.
وبالاتجاه الأول يحس المرء بفساد المجتمع فينطوي على نفسه، ويبتعد عن الناس لاعتقاده أنهم آفات، وأن الشر بينهم " خضرم يزخر "، أما الخير فهو " ثمن آسن "، وينصح بالعزلة ولزوم البيت والاكتفاء بالقليل، ويعلن عن يأسه من الصلاح ومن كل ما يصله بالحياة الدنيا، من ذلك قول ابن الطوبي (١) :
لو قيل لي أي شيء ... تهوى لقلتُ خلاصي
الناس طرا أفاع ... فلات حين مناص
نسوا الشريعة حتى ... تغامروا بالمعاصي
فشرهم في ازدياد ... وخيرهم في انتقاص وقد يزداد التعقد في هذا الاتجاه حتى يلحق بالرهبنة، وتشيع فيه الدعوة إلى