وفي هذه الفترة التي استمرت ما لا يقل عن ثلاثة عشر عاماً ذهب ابن حمديس يطيل قصائده في المعتمد، ويذكر جهاده وانتصاراته على الفرنجة، ويصف المعارك التي كان يخوضها، ويشارك في حياة الأندلس اللاهية فيحضر الدعوات ويخرج إلى المتنزهات ويشرب الخمر ويلهو مع اللاهين ويتبارى مع المتبارين في صياغة الشعر.
وكانت سرسوقة التي خلفها وراءه لا تزال تجاهد، وابن عباد الصقلي يغزو قلورية ويكسب نصراً بعد نصر، وكل شيء من أحداث الوطن يزيد في الأمل ويجعل أوبه المغترب أمراً ممكناً، وابن حمديس في المجالس وبين الناس يضحك للحياة وينال من طيباتها، فإذا خلا إلى نفسه تذكر صقلية ورجح الشك عنده على اليقين، وكان يعكر عليه صفاء الحياة ما يرد عليه من أنباء أصحابه الذين قتلوا ولداته الذين خطفهم المنية، وأقربائه الذين صرعتهم الحروب، وفي غمرة من تلك الغمرات اللاهية وصلته رسالة من وطنه تحمل إليه النبأ بوفاة أبيه وبأنه قبل وفاته كتب له رسالة يوصيه فيها بالبر ويحضه عليه. وفزع ابن حمديس للنبأ وزاد في حزنه إحساسه بأنه غريب، واجتمعت في نفسه عواطف الغريب الذي فقد شخصاً من أحب الناس إلى قلبه، فرثى والده باكية كانت أول الغيث من تلك الدموع التي ظل يبكي بها الوطن طوال حياته: