للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلم يبك في القصيدة أباه بمقدار ما بكى نفسه، ولم يتأثر لموت أبيه بمقدار ما أثر في نفسه أنه لم ير أباه قبل الموت. وفي هذا الحزن الجارف تمثل تلك الصورة المحبوبة لديه، وتذكر يوم الفراق، وحسرة أبيه وهو يودعه، كأنما كان يحس من يومئذ أنه يودعه إلى الأبد.

ولكن ابن حمديس لم يغادر الأندلس بل ظل يمدح ابن عباد متكئاً في مدحه على ما كان أكبر حقيقة لديه، إذ اخذ يذكره أن تعلقه به شديد وأن حبله به وثيق لم يقطعه موت أقربائه في الوطن، ولم يجذه موت أبيه، وكان حقيقاً به أن يرجع ولكن لطف ابن عباد قيده (١) :

وكم حوى الترب دونى من ذوي رحمى ... وما مقلتُ لبعدي منهم أحداً

ولم يسرني ممن مثواكَ موتُ أبي ... وقد يقلقلُ موتُ الوالد الولدا

وما سددت سبيلي عن لقائهم ... لكن جعلتَ صفادي عنهم الصفدا

وحسن برّ فاضَتْ حلاوته ... على فؤاديَ من حر الأسى بردا في هذه الفترة من حياته كان يشيد بانتصارات قومه ويمدحهم ويحضهم على مواصلة القتال ويحذرهم الغربة، وينصحهم بالاعتماد على أنفسهم، فإنه لن يغنيهم تطلعهم إلى الناس. ولكن صقلية سقطت فهز سقوطها قلبه، ولم يكد يفيق من هول الصدمة حتى رأى نفسه يقف إلى جانب ابن عباد الأسير في أغمات، وكأنما شعر بصقلية تسقط مرتين، وربما كان في المرة الأخيرة حادث انكسار المركب به أثناء خروجه من الأندلس وغرق جارية له تسمى جوهرة. وهو يشير إليها في كتاب كتبه إلى ابن عمته أبي الحسن بعد أن كتبت له السلامة (٢) :

ألمْ أكُ في الغرقي مشيراً براحتي ... فلم أنجُ إلا من لقاء حمامي

ألم افقد الشمس التي كان ضوءها ... يجلّي عن الأجفان كل ظلام


(١) القصيدة رقم ١٠١.
(٢) الديوان: القصيدة رقم ٢٨٢.

<<  <   >  >>