للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الضّيم لا يليق بهم؛ وأنّ الخمول لا يجوز عليهم، وأنهم في المقام على من لا يعرف حقّهم ألوم ممّن منعهم حقّهم، فلمّا صادفوا ملكا حكيما، وبأقدار النّاس عليما، لا يميل إلى [سوء] عادة ولا يجنح إلى هوى، ولا يتعصّب لبلد على بلد؛ يدور مع التدبير حيثما دار، ويقيم مع الحقّ حيثما أقام، أقاموا إقامة من قد فهم الحظّ، ودان بالحقّ ونبذ العادة، وآثر الحقيقة، ورحل نفسه لقطيعة وطنه، وآثر الإمامة على ملك الجبريّة، واختار الصّواب على الإلف.

[١٦- مقارنة الأمم]

ثم اعلم بعد هذا كلّه أنّ كلّ أمة وقرن، وكلّ جيل وبني أب وجدتهم قد برعوا في الصّناعات، وفضلوا النّاس في البيان، أو فاقوهم في الآداب، وفي تأسيس الملك، وفي البصر بالحرب؛ فإنّك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية، إلّا أن يكون الله قد سخّرهم لذلك المعنى بالأسباب، [وقصرهم] عليه بالعلل التي تقابل تلك الأمور، وتصلح لتلك المعاين؛ لأنّ من كان متقسّم الهوى، مشترك الرّأي، ومتشعّب النفس، غير مؤفّر على ذلك الشّيء ولا مهيّأ له، لم يحذق من تلك الأشياء [شيئا] بأسره، ولم يبلغ فيه غايته، كأهل الصين في الصناعات، واليونانيّين في الحكم والآداب، والعرب فيما نحن فيه ذاكروه في موضعه، وآل ساسان في الملك، والأتراك في الحروب. ألا ترى أنّ اليونانيين الذين نظروا في العلل لم يكونوا تجّارا ولا صنّاعا بأكفّهم، ولا أصحاب زرع ولا فلاحة وبناء وغرس، ولا أصحاب جمع ومنع، وحرص وكدّ، وكانت الملوك تفرّغهم، وتجرى عليهم كفايتهم، فنظروا حين نظروا بأنفس مجتمعة، وقوّة وافرة، وأذهان فارغة، حتّى استخرجوا الآلات والأدوات، والملاهي التي تكون جماما للنّفس، وراحة بعد الكدّ، وسرورا يداوي قرح الهموم، فصنعوا من المرافق، وصاغوا من المنافع كالقرصطونات، والقبّانات، والأسطرلابات، وآلة الساعات، والكالكونيا والكشيزان والبركار وكأصناف المزامير والمعازف، وكالطبّ والحساب والهندسة واللّحون، وآلات الحرب كالمجانيق، والعرّادات،

<<  <   >  >>