وحث الفريقين على أداء واجبهما، أهل العلم ينشرون العلم ويبينونه، والجاهل يسعى إليهم ويتعلم ... ورتب على إخلال أحد الفريقين أو كليهما بواجبه- عقوبة زاجرة رادعة ... من خلال هذا الحديث يظهر لنا المستوى العلمي الذي أراده الإلسام للمسلمين؛ فبعد أن حارب الجهل في جميع الميادين بمختلف الوسائل، وبعد أن فتح أبواب المعرفة وهيأ لها أهلها -رتب العقوبة الزاجرة على الجهل؛ ذلك لأن الجهل عدو الفكر، يحول بين المرء والمعرفة؛ فيبقى الإنسان أسير جهله سجين أوهامه بعيدًا عن الحق والحقيقة، ولو أن هذا الحديث طبق في الأعصر الأخيرة في المجتمع الإسلامي لما رأيت مكانًا لجاهل، ولا درجة رفيعة لعالم لا يعمل بلعمه؛ بل لما وجد الجهل إلى المسلمين سبيلًا.. والحق أن أرقى الدول في هذا القرن تتبنى التعليم وترعاه وتسهل كل ما يتعلق به. أما أن دولة تعاقب عالما لا يعلم أو لا يعمل أو جاهلًا لا يتعلم- فهذا أمر لم تصل إليه امة من الأمم بعد؛ في حين أن الإسلام قرر ذلك قبل أربعة عشر قرنًا.
كل ما ذكرناه آنفًا من التشجيع العلمي والتزام الدولة الإسلامية بأداء واجبها في هذا الميدان، وإقبال الأمة على العلم، وتفتح القلوب للإسلام: عقدية وعبادة وشريعة وأخلاقا، كل ذلك ولد نشاطًا علميًا واسعًا في مختلف ميادين العلم والمعرفة في الدولة الإسلامية- في القرون التسعة الأولى - نشاطًا لم يعهد التاريخ مثله؛ فحقق الازدهار الحضاري العظيم الذي خلد أعمال العلماء المسلمين، وأمد التراث الإنساني بذخيرة علمية قيمة لا يزال العالم مدينًا لها حتى هذا العصر١.
١ وانظر العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي ص ٤٢٣ - ٤٨٣. وانظر فضل العرب على أوربا لسيجريد هونكه.