يحدث بين اللغات ما يحدث بين أفراد الكائنات الحية وجماعاتها من احتكاك وصراع وتنازع على البقاء وسعى وراء الغلب والسيطرة, وتختلف نتائج هذا الصراع باختلاف الأحوال؛ فتارةً ترجح كفة أحد المتنازعين فيسارع إلى القضاء على الآخر، مستخدمًا في ذلك وسائل القسوة والعنف، ويتعقب فلوله فلا يكاد يبقى على أثر من آثاره, وتارةً ترجح كفة أحدهما كذلك، ولكنه يمهل الآخر، وينتقص بالتدريج من قوته ونفوذه، ويعمل على خضد شوكته شيئًا فشيئًا حتى يتم له النصر, وأحيانًا تتكافأ قواهما أو تكاد، فتظل الحرب بينهما سجالًا، ويظل كل منهما في أثنائها محتفظًا بشخصيته ومميزاته.
وينشأ هذا الصراع عن عوامل كثيرة أهمها عاملان: أحدهما أن ينزح إلى البلد عناصر أجنبية تنطق بلغة غير لغة أهله، والآخر أن يتجاور شعبان مختلفا اللغة، فيتبادلا المنافع, ويتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي.
وسنقف على دراسة كل عامل من هذين العاملين ونتائجه فقرة على حدتها.
١ سنقتصر في هذا الفصل على الصراع بين اللغات المستقلة, أما الصراع بين لهجات اللغة الواحدة فقد عرضنا له في أثناء كلامنا على تفرع اللغات في الفصل الأول من هذا الباب. "انظر صفحات ١٧٩-١٨٤"، وذلك لأن هذا النوع الأخير من الصراع يلازم التفرع ويسايره ويكمل عمله، وذلك على عكس الصراع بين اللغات المنفصلة، فإنه مستقل عن التفرع.