للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويروي الجاحظ أن الكتاب الناشئين كانوا يدرسون آثاره ليتعلموا منها البيان، ويصقلوا عقولهم وألسنتهم١، وقد سخر مر السخرية من أحد هؤلاء الناشئين، إذ رآه يتعرض لقول ابن المقفع في كليلة ودمنة: "وكن كالنسر حوله الجيف، ولا تكن كالجيف حولها النسور"، ويقول: إنما كان ينبغي أن يقول بدلا من ذلك: "كن كالضرس حف بالتحف، ولا تكن كالهبرة٢ تطيف بها الأكلة". قال الجاحظ: وأظنه أراد الضروس، فقال: الضرس، وهذا من الاعتراض عجب٣.

والحق أن ابن المقفع كان من البلاغة في الذروة، ويكفي أنه استطاع أن ينقل أهم ما عرفه في لغته من تراث عقلي، وتاريخي، وفلسفي، وأدبي إلى العربية مع الاحتفاظ لها بيكانها ومشخصاتها، ومن غير شك عانى في سبيل ذلك كثيرًا، فقد خرج بما كان يترجم، وينقل عن نطاق المعاني العربية السابقة إلى معان جديدة لم يسبق للغتنا أن أدتها، وهي معان كانت تزدحم عليه، وتتكاثر وتتنوع، ومع ذلك لم يستعص عليه التعبير عنه، وقد كانت حرية أن تحدث عنده اضطرابا في التراكيب، وأن تدخل في أساليبه صورا من الرطانة الأعجمية، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، فقد ظلت العربية عنده محتفظة بأصولها الأولى، ومقوماتها الأساسية مع السلاسة والطلاوة، واقرأ له هذه الفقرة من كتاب الأدب الصغير٤: "وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق، ولا غنى كالرضا، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى تغييره، وأفضل البر الرحمة، ورأس المودة الاسترسال٥، ورأس العقل المعرفة بما يكون، وما لا يكون، وطيب النفس حسن الانصراف عما لا سبيل إليه، وليس في الدنيا سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا فيها غم يعدل فقدهم. لا يتم حسن الكلام إلا بحسن العمل كالمريض الذي قد علم دواء نفسه، فإذا هو


١ ثلاث رسائل للجاحظ "نشر فينكل" ص ٤٢.
٢ الهبرة: القطعة من اللحم.
٣ الحيوان ٦/ ٣٣٠.
٤ انظر رسائل البلغاء لكرد على "الطبعة الثالثة" ص ٣٥.
٥ الاسترسال: الاسترسال: الائتناس والانبساط.

<<  <   >  >>