للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بها أن يدل على مقدرته في رواية الشعر الغريب، وما يتصل به من أصحابه، وإنه ليقف عند كثير من صعوباته، وكما كان يعني بالوقوف عند الشعر الغريب، كان هو نفسه يلتزم الإغراب في كثير من ألفاظ رسالته على عادته في كل ما يكتب، وهو يضيف إلى ذلك حقًا زخرف السجع، كما يضيف زخرف البديع، وخاصة زخرف الجناس، ولكن الإنسان يحس كأن هذه الزخارف، تأتي عنده تابعة للفظ الغريب فهو الأساس، أو هو الخيط الذي تنسج عليه هذه الزخارف، أو هذا الوشي، وما يطوي فيه من تنميق، وقد عبر هو عن ذلك خير تعبير إذ يقول في إحدى رسائله: "قد كان فيمن مضى قوم جعلوا الرسائل، كالوسائل، تزينوا بالسجع، تزين المحول بالرجع، ما رقوا في درجته، ولا وضعوا قدمًا على محجته، لكنهم يعاينوا، فما تباينوا، وتناضلوا، فلم يتفاضلوا، ولو طمعوا في الوصول، إلى مثل هذه الفصول، لاختاروا الرتب "الشدة" على الرتب، ورضوا اعتساف السبيل، وارتعاء الوبيل"١، فانظر أين يضع أبو العلاء سا بقيه من أصحاب مذهب التصنيع! هو يعترف لهم بالسجع، فذلك شيء لا يستطيع أن يدفعه، ولكنه يدعي عليهم بعد ذلك أنهم قصروا عن معرفة طرقه الصحيحة؛ لأنهم لم يرقوا في درجة مذهبه، ولا وضوعوا قدمًا على محجته، وحقًا ما يقوله أبو العلاء، من أنهم لو طلب إليهم أن يكتبوا على نسق كتابته، لاختاروا عليها شظف العيش، واعتساف السبيل وارتعاء الوبيل؛ لأنهم كانوا يفهمون الفن في صورة أخرى تباين الصورة، التي علقت بنفس أبي العلاء.

إن الفن كان عندهم زخرفًا وتصنيعًا، أما عند أبي العلاء، فقد تقدم الزمن وتطور الفن، وأصبح الفنان يأبى أن يخرج نثره في زخرف، وزينة فقط، بل لا بد أن يخرجه في كلف وعقد، ولا بد له أن يبلغ من ذلك كل مبلغ ممكن، ومن اجل ذلك كان طبيعيًا أن يلوم أبو العلاء الكتاب الذين سبقوه في فن الكتابة؛ لأنهم لم يكونوا من مذهبه ولا من ذوقه، لم يكونوا يعقدون فهم على هذا النحو الذي


١ رسائل أبي العلاء ص٦، والوبيل: المرعى الوخيم.

<<  <   >  >>