للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

انفصال الأندلس انفصالًا تامًا من المشرق في حياتها الاجتماعية، فقد كانت تتصل بها، وكانت تأخذ منه كثيرًا حتى في غنائها، إذ نجد زرياب تلميذ إسحاق الموصلي يبدأ حركة الغناء هناك، ويقولون: إنه نقل إلى الأندلسيين -مع غنائه- كثيرًا من آداب المشارقة في طعامهم، وثيابهم وأدوات زينهم١، ومما لا ريب فيه أن ذلك يوضح صلة ما بين الأندلسيين والمشارقة، ولكن على كل حال كانت لهم حياتهم الاجتماعية الخاصة.

وإذا كانت الشخصية الاجتماعية للأندلس تتميز من الشخصية الاجتماعية المشرق، فإن شخصيها العلمية على الضد من ذلك، إذ كان الأندلسيون يعتمدون في هذا الجانب اعتمادًا شديدًا على ما يأتيهم من المشرق، ونحن نعرف أن الكثرة من أهل الأندلس في القرون الأولى للفتح العربي، كانوا نصارى، وكانوا يتكلمون اللاتينية العامية في حياتهم اليومية، ويصطنعون اللاتينية الممتازة في كتاباتهم، وخاصة في وما يتصل بها، ولكن هذه اللاتينية الممتازة، لم يتسرب منها شيء واضح للغة العربية في الأندلس، على أننا لا نصل إلى القرن الرابع، حتى نجد أهل الأندلس يهجرون اللاتينية، ويتخذون اللغة العربية مكانها، حتى في طقوسهم الدينية٢، ومهما يكن فإن عرب الأندلس لم يفيدوا شيئًا واضحًا في حياتهم العلمية، عن طريق الأندلس نفسها بل جل ما أفادوه أتاهم من المشرق، إذ نقلوا الثروة العلمية المشرقية إلى بلادهم بكل ما فيها من فقه، ودين ولغة ونحو، وفلسفة وطب، وساعدهم في ذلك الخلفاء الأمويون، وعلى رأسهم عبد الرحمن الناصر، وابنه الحكم الذي يقال: أنه كان يمتلك مكتبة تضم مائة ألف مجلد.

ولما سمع المشارقة بتشجيع الدولة الأموية في الأندلس للعم، أخذوا يفدون هناك زرافات ووحدانا ابتغاء المجد والشهرة العلمية، وكان الأندلسيون أنفسهم يستبقون الرحلة إلى المشرق للتزود من ثقافته، ومنابعه العقلية، وعقد صاحب


١ انظر ترجمته في نفح الطيب ٢/ ٧٤٩، وانظر أيضًا في ذلك كتاب: R Dozy, Histoire des Musulmans d Espagne, l.
٢ Nicholson Lit Hist. of Aeabs, p ٤١٥.

<<  <   >  >>