التصنيع ما يجعلنا نقف -من بعض الوجوه- على مبلغ مكانته الأدبية، على أن للمسألة وجهًا آخر، وهو أن الناس في النصف الثاني من القرن الرابع، كانوا يعتدون بابن عبد كان، ورسائله مع أننا نعرف أنهم لم يكونوا لغير السجع والبديع في تلك العصور، وفي ذلك ما يجعلنا نحسن شيئًا من الصلة بين آثار ابن عبد كان، وآثار أصحاب التصنيع من أمثال الصابي، والمسألة لا تحتاج كل هذا الاستنتاج، فإن من يرجع إلى رسالته، التي كتبها عن ابن طولون إلى ابنه العباس، وكان قد شغب عليه بالإسكندرية أثناء رحلة له بالشام، وهي الرسالة التي احتفظت له به المصادر القديمة، يجده فيها يعني بالسجع عناية شديدة، وحقًا قد يتخفف منه، ولكنه يلتزمه في أكثر جوانب الرسالة، مما يجعلنا نؤمن بأنه كان يعتمد عليه اعتمادًا دقيقًا في صنع رسائله، وانظر إليه كيف يستهل تلك الرسالة١:
"من أحمد بن طولون، مولى أمير المؤمنين إلى الظالم لنفسه، العاصي لربه، الملم بذنبه، المفسد لكسبه، العادي لطوره، الجاهل لقدره، الناكص على عقبه، المركوس في فتنته، المبخوس من حظ دنيا وآخرته، سلام على كل منيب ومستجيب، نائب من قريب، قبل الأخذ بالكظم، وحلول الفوت والندم.. أما بعد فإن مثلك مثل البقرة تثير المدية بقرنيها، والنحلة يكون حتفها في جناحيها، وسلتعم هبلتك الهوابل -أيها الأحمق الجاهل، الذي ثنى على الغي عطفه، واغتر بضجاج المواكب خلفه- أي مورد هلكة بإذن الله، توردت إذ على الله عز وجل تمردت وشردت، فإن تبارك وتعالى قد ضرب لك في كتابه مثلًا:{قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ، وإنا كنا نقربك إلينا، وننسبك إلى بيوتنا، طمعًا في إنابتك، وتأميلًا لفيئك، فلما طال في الغي انهماكك، وفي غمرة الجهل ارتباكك، ولم نر الموعظة تلين