وكل ما أنتجه في ذلك العصر من خطابة، وغير خطابة لم نكن مبالغين، فقد كثرت المعرفة، وتشعبت المعاني ودقت الفطن، ولم يعد لها حد تنتهي إليه، وانسابت تمن ذلك أسراب كثيرة في خطابتهم، فصاروا أقدر على البيان والتصرف في الألفاظ.
ويخيل إلى من يقرأ في أخبار القوم أنهم أصبحوا جميعا خطباء، فهم يخطبون في نظرياتهم السياسية، وفي معتقداتهم الدينية، ويتناقشون فيها بكل مكان، في المسجد الجامع وفي الطرقات والأسواق، وفي السلم وحين يتحاربون، ومن ورائهم القصاص والوعاظ، وقد جعل ذلك الجاحظ ينبهر إنبهارًا شديدًا، فيخص العرب بالخطابة، ويرفعهم درجات فوق الفرس واليونان١، وقد يكون مصيبا فيما يختص بالفرس، أما اليونان فأكبر الظن أنه لم يقرأ شيئا واضحا عن خطابتهم، وإلا ما بالغ في رأيه وذهب هذا المذهب، فإن من المعروف أن الخطابة نهضت عند اليونان نهضة واسعة، إذ كانت لديهم مجالس شورية، وقضائية أعدت لازدهار الخطابة عندهم ازدهارا أتاح لأرسططاليس أن يكتب فيها، وفي أنواعها وأغراضها وأساليبها كتابا كبيرا، وأكبر الظن أن الجاحظ لم يعرف شيئا من ذلك كله، وهو كذلك لم يعرف شيئا عن خطباء اليونان المشهورين أمثال ديموستين وبركليس.
ومهما يكن فقد ارتقت الخطابة رقيا بعيدا في العصر الأموي، ونشطت نشاطا لعل العرب لم يعرفوه في عصر من عصورهم الوسيطة، إذ اتخذوها أداتهم للظفر في آرائهم السياسية، والانتصار في مجادلاتهم المذهبية، وعولوا عليها في قصصهم ومواعظهم، وفي وفادتهم على الخلفاء والولاة. ومن ثم أينعت فيها فروع ثلاثة، هي الخطابة السياسية، وخطابة المحافل والخطابة الدينية، ونلم بكل فرع من هذه الفروع إلمامة قصيرة.