للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الماء قبل لسعه ولو لم تكن شربت لقتلته. ولما وصل إلينا استقبلونا بالماء شربت خيلنا. ودخلنا صحراء شديدة الحر ليست كالتي عهدنا. وكنا نرحل بعد صلاة العصر ونسري الليل كله وننزل عند الصباح. وتأتي الرجال من مسوفة وبردامة وغيرهم بأحمال الماء للبيع. ثم وصلنا إلى مدينة أيوالاتن في غرة شهر ربيع الأول بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة. وهي أول عمالة السودان ونائب السلطان بها فَرْبا حسين وفربا "بفتح الفاء وسكون الواو وفتح الباء الموحدة" معناه النائب. ولما وصلنا جعل التجار أمتعتهم في رحبة وتكفل السودان بحفظها وتوجهوا إلى الفربا وهو جالس على بساط في سقيف وأعوانه بين يديه بأيديهم الرماح والقسي وكبراء مسوفة من ورائه. ووقف التجار بين يديه وهو يكلمهم بترجمان على قربهم منه احتقاراً لهم، فعند ذلك ندمت على قدومي بلادهم لسوء أدبهم، واحتقارهم للأبيض. وقصدت دار ابن بداء وهو رجل فاضل من أهل سلا، كنت كتبت له أن يكتري لي داراً ففعل ذلك. ثم إن مشرف أيوالاتن ويسمى مَنْشَاجو "بفتح الميم وسكون النون وفتح الشين المعجم وألف وجيم مضموم وواو" استدعى من جاء في القافلة إلى ضيافته، فأبيت من حضور ذلك فعزم الأصحاب علي أشد العزم فتوجهت فيمن توجه. ثم أتي بالضيافة وهي جريش أنلي مخلوطاً بيسير عسل ولبن قد وضعوه في نصف قرعة صيروه شبه الجفنة فشرب الحاضرون وانصرفوا، فقلت لهم: ألهذا دعانا الأسود؟ قالوا: نعم، وهو الضيافة الكبيرة عندهم. فأيقنت حينئذ أن لا خير يرتجى منهم، وأردت أن أسافر مع حجاج أيوالاتن ثم ظهر لي أن أتوجه لمشاهدة حضرة ملكهم. وكانت إقامتي بإيوالاتن نحو خمسين يوماً. وأكرمني أهلها وأضافوني، منهم: قاضيها محمد بن عبد الله بن ينومر، وأخوه الفقيه المدرس يحيى. وبلدة إيوالاتن شديدة الحر، وفيها يسير نخيلات، يزرعون في ظلالها البطيخ. وماؤهم من أحساء بها، ولحم الضأن كثير بها وثياب أهلها حسان مصرية وأكثر السكان بها من مسوفة. ولنسائها الجمال الفائق، وهن أعظم شأنا من الرجال.

وشأن هؤلاء القوم عجيب وأمرهم غريب، فأما رجالهم فلا غيرة لديهم ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه بل ينتسب لخاله ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بنيه. وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود.

<<  <  ج: ص:  >  >>