قال فخرج على حسب العادة وإذا هو بجيش قد اقبل على ناقته فلما رآه عمر قصده وقال له: يا عبد الله من أين أقبلت قال من المدائن يا أمير المؤمنين قال فما عندك من الخبر أقر الله عينك وغفر لنا ولك قال ابشر يا أمير المؤمنين بالفتح العميم والسعد الجسيم وإن الله سبحانه وتعالى قد هزم جند المشركين وقطع دابر القوم المجرمين وأخلى منهم ديارهم وأخفى آثارهم وزعزع مراكبهم وطحطح مواكبهم وكتائبهم وشتت جموعهم وأخلى ربوعهم وقصم آجالهم وفرق أحوالهم وترك مساكنهم خالية وأوطانهم خاوية قال فلما سمع عمر رضي الله عنه هذا المقال حمد الله وأثنى عليه وقال خذلوا من مأمنهم وسار وهو يحدثه بفتح المدائن حتى دخل المسجد وتسامع الناس فأتوا حتى غص المسجد بالناس وأقبل جيش يحدثهم وهم يكثرون الثناء على الله ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها وصل بشر بالمال ومعه ابنه الملك كسرى ولباسه وسلاحه وبساطه فلما نظر عمر إلى ذلك قال أن الذي أهدى الينا هذا لأمين فقال علي كرم الله وجهه إنك عففت فعفت الرعية فحمد الله وأثنى عليه وافرز من الخمس سهم من غاب من المسلمين وقسم الخمس في مواضعه ثم قال أشيروا علي فيما أصنع في هذه القطيفة أعني البساط فقالوا: رايك أعلى فقال علي كرم الله وجهه لم يدخل عليك جهل ولا تقبل شكا وإنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت ولبست فأبليت وأكلت فأفنيت قال فوالله لقد صدقني يا أبا الحسن ثم إنه قسم البساط قطعا بين الناس قال فأصاب كل رجل منهم قطعة فباعها بنحو العشرين ألف دينار فلما فرغ من توزيعه وتوزيع مال الخمس دعا بمحكم بن رواحة وكان من أجسم أهل المدينة وأجفاهم خلقة فالبسه زي كسرى ووشاحه وتاجه وسواريه ومنطقته وحلاه بحليته وعصابته وسيفه وسلاحه وعدته ونظر الناس إليه كأنه كسرى في ملكه فقال عمر رضي الله عنه اعتبروا بالدنيا وتقلباتها بأهلها وما يرى من مصائبها وعطبها هذا كسرى ما زال يفتخر على ملوك الدنيا بكثرة أمواله وذخائره وجواهره وعزه وجنوده ولم يقدم لنفسه شيئا ينفعه عند الله وغرته الأماني الكاذبة فأخذه الله من مأمنه وبقي مرتهنا بما اكتسب في دينه ودنياه ثم قال: أيها الناس هذا ملك المدائن قد انتقل عن أصحابه وتوزع بين اربابه اين تلك الحشمة والسلطان أين الجنود والاعوان اين الغلمان اين المماليك والخدام أين التاج والاكليل أين الجيش والفيل اين الصاحب والخليل وقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}[النساء: ٧٧] ثم قال: أيها الناس من له منكم يد سابقة فليقم فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال أنا يا أمير المؤمنين ابن الصاحب والخليل وابن أول من آمن ووزر وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصر وأنفق ماله وتصدق ودخل معه الغار وانتصر وجاهد بين يديه رجاجج من كفر وجادل وافتخر وأنزل الله فيه: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}[الحديد: ١٠] .