للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

والقدر: مصدر، تقول: قَدَرتُ الشيء بتخفيف الدال وفتحها أقْدِره بالكسر والفتح قَدَرًا وَقَدْرًا: إذا أحطتُ بمقداره، والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، وكل مُحدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته.

هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كَانَ السلف من الصحابة وخيار التابعين إلَى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة، وقد روى مُسْلِم (١) القصة في ذَلِكَ من طريق كَهْمَس، عن ابن بُرَيْدة، عن يَحْيَى بن يَعْمر قَالَ: "كَانَ أول من قَالَ في القدر بالبصرة مَعْبَد الجُهَني، قَالَ: فانطلقتُ أنا وحُميد الحِمْيَري"، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلكَ، فأخبره بأنه بَرِيءٌ ممن يقول ذلكَ، وأن الله لا يقبل مِمن لَم يؤمن بالقدر عملًا.

وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ عالِمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها، قَالَ القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب ولا نعرفُ أحدًا يُنسب إليه من المتأخرين، قَالَ: والقدرية اليوم مطبقون عَلى [أن] (٢) الله عالِمٌ بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لَهم، وواقعة منهم عَلى جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبًا باطلًا أخف من المذهب الأول.

وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارًا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مَخصومون بما قَالَ الشافعي: إن سلَّم القدري العلم خُصِم، يعني: يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم؟ فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل، تعالَى الله عن ذَلِكَ.


(١) "صحيح مُسْلِم" (كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان. . .) برقم (٨).
(٢) زيادة من "الفتح".

<<  <  ج: ص:  >  >>