الحسدُ: تمني زوال النعمة عن المُنْعَم عليه، وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلكَ لنفسه، والحق أنه أعم، وسببه أن الطباع مَجبولة عَلى حب الترفع عَلى الجنس، فإذا رأى لغيره ما ليس له أحب أن يزول ذَلِكَ عنه له ليرتفع عليه، أو مطلقًا ليساويه، وصاحبه مذموم إِذَا عمل بمقتضى ذَلِكَ من تصميم أو قول أو فعل، وينبغي لمن خطر له ذَلِكَ أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات.
واستثنوا من ذَلِكَ ما إِذا كانت النعمة لكافر أو فاسق يستعين بها عَلى معاصي الله تعالَى فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته.
وأمَّا الحسد المذكور في الحديث فهو: الغِبْطَة، وأطلق الحسد عليها مَجازا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص عَلى هذا يُسَمى منافسة، فإن كَانَ في الطاعة فهو مَحمود، ومنه: {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦)} [المطففين: ٢٦]. وإن كَانَ في المعصية فهو مَذموم، ومنه:"ولا تنافسوا"(١)، وإن كَانَ في الجائزات فهو مباح؛ فكأنه قَالَ في الحديث: لا غِبْطَة أعظم أو أفضل من الغِبْطة في هذين الأمرين.
ووجه الحصر: أن الطاعات إما بدنية أو مالية أو كائنة عنهما، وقد أشار إلَى البدنية بإتيان الحكمة والقضاء بها وتعليمها، ولفظ حديث ابن عمر:"رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار"، والمراد بالقيام به: العمل به مطلقًا أعم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها، ومن تعليمه الحكم، والفتوى بمقتضاه، فلا تخالف بين لفظي الحديثين.
قَوْلُهُ:(إلا في اثنتين) كذا في معظم الروايات اثنتين بتاء التأنيث، أي: لا حسد مَحمود في شيء إلا في خصلتين.
(١) وهي جزء من حديث أخرجه مُسْلِم في "صحيحه" (كتاب البر والصلة والآداب، باب: تَحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش) برقم (٢٥٦٣)، والإمام أَحْمَد في "مسنده" (٢/ ٢٨٧، ٣١٢، ٣٤٢، ٣٩٣، ٤٦٥، ٤٧٠، ٤٨٢، ٤٩١، ٥١٢، ٥١٧، ٥٣٩).