وأما ما عُرفَ بالاستقراء من تَصَرُّفه، فيحتاج أولًا إلَى التعريف بالصحيح عنده وعند غَيره:
وهو أن يكون الإسناد متصلًا، وأن يكون كُل مِنْ رواته عدلًا، وأن يكون موصوفًا بالضبط، فإن قَصَّرَ احتاج إلَى ما يَجْبر ذَلِكَ التَّقصير، ويكون الحديث مع ذَلِكَ قد خلا من أن يكون مَعْلولًا -أي: فيه عِلَّة خفية قادحة-، أو أن يكون شَاذًا -أي: خالف [٣/ ب] رَاويه من هو أكثر عددًا منه أو أشد ضبطًا مُخَالفة تَستلزم التَّنَافي ويُتَعَذر معها الجمع الَّذِي لا يكون مُتَعَسِّفًا.
والاتصال عندهم: أن يعبر كل من الرواة في روايته عن شيخه بصيغة صريحَة في السماع منه: كسمعت، وَحَدَّثنِي، وَأَخْبَرَني، أو ظاهرة في ذَلِكَ: كعن، أو أن فلانًا قَالَ.
وهذا الثاني في غير المُدلَّس الثقة، أما المُدَلَّس الثقة فلا يقبل منه إلا المرتبة الأولى, إلا أن يُعثر منه عَلى ارتكاب مجاز في الصيغ الصريحة فيُحترز منه حينئذٍ، والأصل عدم ذَلِكَ؛ ولهذا أطلق كثير من الأئمة قبول رواية المُدَلِّس الثقة إذا صَرَّح.
ثم إن هذا الثاني شىرط حَمْلِه عَلى السماع عند البُخَاري أن يكون الراوي قد ثَبَتَ له لقاء من حَدَّثَ عنه ولو مرة واحدة، فإذا ثبت ذَلِكَ عنه حُملت عنده عنعنتُه عَلى السماع، وسبب ذَلِكَ أن تقول: إذا لم يثبت لقاؤه له، وإنما عرفنا أنه عاصره فقط، احتمل أن تكون روايته عنه على طريق الإرسال؛ لما عرف من عادة كثير ممن لم يوصف بتدليس أنه يُرْسِل، وإذا لم يترجح أحد الاحتمالين عَلى الآخر لم يحسن الحمل عَلى أحدهما.
فإن قِيل: فَلِمَ لَمْ يَطْرُد ذَلِكَ في جَميع عنعنته؟
فالجواب: أن ذَلِكَ يُخالف فَرْض المسألة؛ لأنها مَفْروضة في غير المُدَلَّس، ولو كَانَ بعد أن ثبت لقاؤه لشيخه قد حدَّث عنه بالعنعنة بما لم يَسْمعه لكان بذلك مُدَلِّسًا، والفَرْض أنه غير مُدلس، فكان الاتصال ظاهرًا في ذَلكَ، وعُرف من هذا أن شرط البُخَاريّ في الاتصال أتْقَنُ (١) من شرط غيره مِمَّن اكتفى بالمُعَاصرة.
(١) في الأصل: "أقوى"، وقد ضبب عليها وكتب فوقها "أتقن" وبجوارها "صح".