وكذا عرفنا بالاستقراء من تصرفه في الرجال الذين يُخرج عنهم أنه ينتقي أكثرهم صُحبة لشيخه وأعرفهم بحديثه، وإن أخْرَج من حديث مَن لا يكون بهذه الصفة فإنما يُخَرِّجُ في المتَابَعات، أو حيث يقوم له قَرينة بأن ذَلِكَ مِمَّا ضبطه هذا الراوي.
فبمجموع ذَلِكَ: وَصَف الأئمة كتابه قديمًا وحديثًا بأنه أصح الكتب المصنَّفة في الحديث، ولم يُنقل عن أحد أنه خالف في ذَلِكَ، إلا ما حَكى ابن مَنْده أنه سمع أبا علي النَّيْسَابُوري يقول:"ما تحت أَدِيمِ السَّمَاءِ أصحُ من [٤ / أ] كتاب مُسْلِم"(١).
وهذا وإن كَانَ مستلزمًا لعدم أفضلية صحيح البُخَاريّ عَلى صحيح مُسْلِم، لكن لا يلزم منه أن صحيح مُسْلِم أصح من صحيح البُخَاريّ عند أبي علي؛ لاحتمال أنه يَرَى المُسَاواة بينهما، وَعَلىَ تقدير أن يثْبُت عن أبي علي أنه صَرَّح بذلك فهو محجوج بإجماع مَنْ قبله ومَن بعده عَلى خلافه.
وأمّا ما حُكي عن المغاربة من أنهم يفضلون صحيح مُسْلِم عَلى صحيح البُخَاريّ، فذلك راجع إلَى أمر آخر، وهو أنه يجمع المتون في موضع واحد ولا يفرقها في الأبواب، ويسوقها تامة ولا يُقَطِّعها في التراجم، ويحافظ عَلى الإتيان بألفاظها, ولا يروي بالمعنى، ويفردها ولا يخلط معها شيئًا من أقوال الصحابة ومن بعدهم في الغالب، وهذا جميعه وإن كَانَ يستدعي أفضليته من جهة فإنه يستدعي أفضلية البُخَاريّ من جهة أنه امتاز عن الوقوف عند مطلق الجمع، واختص بنفع الطالب بما استَنْبَط من فقهه في تراجمه بما يَشُوق النظرَ ويَرُوق السمعَ، وبقي ما يتعلق بأفضلية الأصحية له مُسَلَّمًا من المخالف والموافق، ناطقًا بذلك أو مقررًا له علماء المغارب والمشارق، ذَلِكَ فضلُ الله يُؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فهذا فيما يتعلق بشرطه في الصحة، وأمَّا ما يتعلق بمَوْضوعه: فعُرف بالإسْتِقراء من طريقته، وبما تقدم في المفاضلة، أن مسلمًا يجمعُ المتون في موضع واحد، وَالبُخَاريّ يُفرِّقها في الأبواب اللائقة بِها، لكن ربما كَانَ ذلِكَ الحديث ظاهرًا في ذَلِكَ