المطار أفطر وأنتظر، وكان المطعم ممتلئاً، وكل من فيه يأكل ويشرب ويتحدث مثلما كنت آكل وأشرب وأتحدث، تراهم فتحسبهم أصدقاء متلازمين لا يفترقون وأنّ شَمْلَهم جميع لا يتشتّت، ولكن مطار بيروت (الذي تحط فيه كل ربع ساعة طيارة وتقوم منه طيارة) لا يلبث الصوت أن يخرج منه ينادي من المكبِّر: ركاب طائرة «BOAC» المسافرة إلى لندن يتوجهون إلى أرض المطار. فتترك أكلَها وشربها جماعةٌ من الحاضرين وتقوم. ثم ينادي: ركاب طائرة «KLM» المسافرة إلى جاكرتا، فيترك ناسٌ أكلَهم وشربهم ويقومون. وطائرة إلى أميركا، وأخرى إلى الكونغو، وثالثة إلى إيران، ورابعة إلى موسكو ...
فنظرت في الناس وقلت لأخي (وكان معي): هذه هي حياتنا؛ نعكف على طعامنا وشرابنا ومشاغل عيشتنا، وإذا بالنداء يدعو مَن جاء دوره ليذهب إلى حيث يُحمَل، إما إلى غابات إفريقيا وإما إلى ثلج سيبيريا، وإما إلى ملاهي باريس ومشاهد نيويورك. فمَن كان مستعداً للسفر، حاجاته مَقْضِيَّة وحقائبه مُعَدَّة وحمله خفيف، مضى مستريح البال، ومَن جاء دوره وهو لم يعد متاعه ولم يقضِ حاجته ذهب بلا زاد ومضى على غير استعداد.
أفلا نستعدّ للسَّفْرة التي لا بد منها، ونتزود بها الزاد الذي لا ينفع غيره فيها؟ أم نحن نتناسى الموتَ وهو أمامنا، نظنه أبعد شيء عنا وهو أقرب الأشياء منا، نصلّي على الأموات ونشيّع الجنائز ونحن نفكر في أمور الدنيا، كأنّا مُخَلَّدون فيها وكأن الموت كُتب على الناس كلهم إلا علينا؟